آخر تحديث :الخميس-28 نوفمبر 2024-12:24ص

مجلة جرهم


فـتـــــوى مارْديـن وفقــــهُ الأقـليـــــــات بـــــــــــــين قاعدة الـضرورة وضـــــــرورةِ المراجعات

فـتـــــوى مارْديـن وفقــــهُ الأقـليـــــــات بـــــــــــــين قاعدة الـضرورة وضـــــــرورةِ المراجعات

السبت - 25 مايو 2024 - 10:08 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. محمد طشوش أستاذ بالجامعة الأنغلو- الأمريكية، براغ

في سنة 2010، بمدينة ماردين التركية، مسقط رأس الشيخ ابن تيمية، انعقد مؤتمر علميٌ يناقش فتوى الفقيه الشهير، التي نصُّها:
"وسئل (رحمه الله) عن بلد (ماردين) هل هي دار حرب أو بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه وماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه . وإلا استحبت ولم تجب.
ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريقة أمكنتهم. من تغيب أو تعريض أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت.
ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم.
وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، وليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه.".
إيضاح :
تعالج فتوى ماردين موضوعا خطيرا يتعلق بالرأي القديم الذي يقسّم العالم إلى دارين؛ دار إيمان ودار كفر، كما تطرح إمكانية تجاوز ذلك التقسيم باجتهاد جديد. ومن هنا انطلق المؤتمر للبحث في سبل إحياء منهج تفسير الأحكام الشرعية في ضوء الواقع الذي تحكمه ظروف سياسية مختلفة، باعتبار أنّ الدول المدنية التي تحمي الحريات والأديان والإثنيات المختلفة تستدعي أن ينْظرَ الفقهُ الإسلامي إلى العالم كله كفضاء للتعايش بين البشر بمختلف أطيافهم وألوانهم. وهذا الفهم هو ما يمكن أن نلتمسه في جواب ابن تيمية، إذا كان نص الفتوى سليما من التحريف!
إذا كان التشريع الإسلامي قد قرر قواعد مصلحية غاية في المعقولية ((common sense)) مثل أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وأن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين ونحوها من القواعد، وإذا كان التشريع في الجملة ابنَ بيئته، فإن تغير الواقع المؤطر له ضرورةٌ توجب إعادة النظر في النصوص التراثية وتجاوز تلك التقسيمات التي قد تسافر بالشعوب البريئة في الزمن الماضي وتجرّها إلى خوض حروب دينية في عالم استنفذ مسوغات الحرب ولم يعد في حاجة لأسباب جديدة لها!
في العالم القديم، ساد منطق الحرب بين الشعوب؛ فكانت الحرب أصلا معتبرا وأمرا متوخى في كثير من الأنظمة، وكانت الإغارة أمرا شائعا أو متوقعا بين كثير من الحدود. من جهة أخرى، فإن الفقه السياسي كان في مراحل تطوره الأولى، وهذا يعني أن الشق العملي للنظام المؤطر للعلاقات الدولية وقتها سبق الشق النظري، وعليه فليس من الغريب أن يقسم الفقهاء العالم إلى دار حرب ودار سلم اعتبارا لتلك الظروف الهشة.
لقد رجح المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بأن الإسلام يقرر أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش السلمي، أما تقسيم الدور في الفقه الإسلامي فيعود إلى الصدر الأول وفي سياق حالة الحرب، وهي حالة استثنائية، بالتالي، فإن جميع ما تضمنه الفقه الإسلامي من آثار ذلك التقسيم والأحكام الشرعية المترتبة عليه كان تبعا للحالة القائمة يومئذ بين الدولة الإسلامية وسائر العالم من حولها، أما الدول الغربية بصفة عامة فهي بلاد التعددية الدينية والثقافية القائمة على السلم المحقق للأمن والكافل للحقوق المشتركة.
في الحقيقة
لقد اعتبر مؤتمر ماردين أن فتوى ابن تيمية قد تم تحريف نصها وتزييف فهمها في آن واحد، وهو ما أكدته دار الإفتاء المصرية بعد سنتين من ذلك، فالصواب في نص الفتوى هو "... ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه."، وهو المثبت في النسخة المخطوطة الوحيدة الموجودة في المكتبة الظاهرية. كما استأنس الباحثون بنقول لنص الفتوى في مصادر حنبلية مثل الآداب الشرعية والدرر السنية في الأجوبة النجدية، وأرّخوا التحريف الواقع إلى طبعة فرج الله الكردي من القرن الماضي، ومن هناك انتقل التحريف إلى طبعة الشيخ عبد الرحمن القاسم واشتهر النص هكذا "... ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه."
في الحقيقة، إن فكرة المؤتمر فكرة عبقرية، وسيكون من المفيد إتباعها بتفعيل التوصيات وبتنظيم مؤتمرات في السياق نفسه، على أن تحظى بتغطية إعلامية أوفر، تتجاوز التقريرات الصحفية إلى الأفلام الوثائقية والسنيمائية التي تصنع المفاهيم وتوسع آفاق البحث. لقد استغلت هذه الفتوى في تفعيل مفاهيم متشددة بتنفيذ جرائم إرهابية طوال قرن دمويّ كامل. إن الفضول وحس المسؤولية والشفقة على الضحايا تجعلنا نفكر في الجهة التي تتحمل وزر هذا الخطأ الجسيم، لكن التساؤلات الأكثر عملية في هذا الموقف قد تكون: هل ستستوعب الجماعات المتطرفة والإرهابية الدرس؟ هل ستكف الأديولوجيات المتطرفة عن التأصيل للعنف والجماعات الإرهابية عن ممارسته انطلاقا من نصوص محرفة؟ ومإذا عن دور الحكومات وعموم المسلمين في تصحيح مسار الدين؟ المتوقع على المدى القريب لا يبعث على الأمل لوجود ثلاثة موانع، هي:
أن النمط الديني السائد في العالم الإسلامي لم يتحرر بعدُ بشكل منهجي من ربقة التقليد. فمن لم يعتمد على ابن تيمية في فتوى تعود إلى القرن الثاني عشر للميلاد، قد يقلد فتوى لفقيه معاصر لا تقل خطورة عن فتوى ماردين.
أن الاجتهاد المقاصدي- الأصولي لم يأخذ بعدُ مكانته المناسبة بين مساحة النصوص الواسعة التي يكتفي بها الفقه النقلي.
أن العقل الإسلامي لم يتصالح بشكل متكامل مع العالم الذي يعيش فيه؛ فهو متوجس من التعامل مع المتغيرات، ومتردد في التواصل الحضاري مع الآخر، ولهذا نجد أن الخطاب الإسلامي السائد (خطاب جماعات الإسلام السياسي)، يعاني من ازدواجية في المواقف الإنسانية، وهذا لا ينتج إلا عن ضعف استيعاب معالم الحاضر وقوانين الحضارة.
فقه الأقليات
إن الناظر في الموروث من الفقه الإسلامي وأصوله يدرك أنه لا يتناول بصفة مباشرة ما بات يُعرف منذ أواخر القرن الماضي بفقه الأقليات، ولكن الباحثين والفقهاء في الجملة لا يختلفون حول اشتمال ذلك الموروث على إشارات أصولية متعددة المستويات، يمكن ردّها إلى قواعد الخصوصيات والاستثناءات، وما تشتمل عليه من فروع التيسير القريبة من الرُخَص، وفتاوى النوازل، والآراء المرجوحة باعتبار السياق الحضاري لا الدليل الشرعي، وإلى الكليات الفسيحة من قبيل المحافظة على الوجود النوعي للإنسان بمجتمع منتظِم بالذوق الروحي والخلق المتسامي، مما يمكن استثماره بتحديث عبارته وترتيب صياغته وتقريب منطقه بهدف نجدة الأقليات المسلمة في وضعها الطارئ، والتصالح مع الجيل الجديد من المسلمين في أسلوب حياتهم المعقد والسريع، وإلهام المجتمع الإنساني عموما في تحدياته الحضارية.
بناء على هذا، فإنه من الممكن القول بأن فقه الأقليات قد تجاوز حرج الابتداع في الدين لاستناده إلى أصول تشريعية معتبرة، كما تكونُ روحُ تشريعه والمنظومة الفكرية المؤطرة له سليمة من أي تشويش هرطقي أو تكلف حداثي؛ فهو عبارة عن ترجيح انتقائي مستند إلى مصادر الفقه وطرق الاستنباط التقليدية، وكونه يحاول الإجابة عن أسئلة واقع جديد مركب من عناصر سريعة التفاعل والتغير، فإنه لابد أن يستحدث في ممارسته سلّم أولويات مناسب، وإلا كان ضربًا من العبث الذي تمجّه فلسفة الدين.
إطار اجتهادي
في تحديد الإطار الاجتهادي لفقه الأقليات يقول معالي الشيخ عبد الله بن بيه:
ضرورة فكرية
إن الاجتهاد المنشود لهذا الباب الفقهي هو تفعيل لآليات الاستنباط التي تمنح حياة جديدة لفقه ما بعد أزمة غلق باب الاجتهاد التي نكبت المعرفة الإسلامية لقرون بسبب عدم تطابق الأحكام مع الأحداث (incompatibility)، بالتالي فإن فقه الأقليات من هذه الزاوية ضرورة عملية لتعلقه بمتطلبات المجتمع المسلم في الوقت الراهن، وضرورة فكرية لدوره الدافع في إنعاش حركة المعرفة بشكل عام. ثم إن درجة الاضطرار إلى هذا المنهج تشتد عند تقييم عقود من آثار الخطاب الإسلامي المؤسَس على مخلفات النكبة المعرفية. لقد شهدنا بالتجربة تصاعدا مخيفا لمشاعر الكراهية وأحلام النصر بالقتال والأعمال التخريبية والإجرامية، بالرغم من جهود الدول والأفراد في محاربتها، سواء في الدول الإسلامية أو الغربية. حسب تقرير مركز إفريقيا للدرسات الإستراتيجية فإن أعمال العنف المرتبطة بالجماعات الإسلامية المتطرفة في إفريقيا قد تضاعفت سنة 2019. التقرير نفسه يشيد بتراجع أحداث العنف الديني في شمال إفريقيا دون أن يُغفل حقيقة استمرار تولّد الجماعات المتطرفة الجديدة، والتي قد تنجح في استقطاب أفراد من معتنقي الإسلام في الغرب، أو في تصدير أيديولوجيات متشددة إليهم بفضل الموقع الاستراتيجي لدول المغرب الكبير وديناميكية الحركة بالمنطقة المتوسطية.
فإذا تبيّن أن هذا المنهج الاجتهادي وسيلة فعّالة للإصلاح الديني بهدف استدراك التخلف ومواجهة خطاب التطرف، فإنه لا تكلّف في إلحاق هذا النمط الجديد–القديم من الفقه بالضروريات من الوسائل التي استحدثها الجيل الأول من المسلمين في ضوء قاعدة الضرورة وما يشبهها، كتدوين الكتب واستحداث الخطط وتقعيد القواعد واستنطاق النصوص بما لم يكن في الأمر الأول ولم تعالجه النصوص بشكل مباشر، وكلٌ ضرورةٌ في وقته.
الضرورة والحاجة
إن فقه الأقليات، بالإضافة إلى كونه ضرورة معرفية فإن بُنيته تعتمد اعتمادًا كبيرًا على أصل الضرورة في التشريع الإسلامي، ولأجل ذلك ينبغي التذكير بخلاصة عن مصطلح الضرورة لتتوضح صلته المزدوجة بفقه الأقليات.
الضرورة في العربية من الاضطرار وهو الافتقار إلى الشيئ، وقد (اضطر إليه) أمرٌ: أحوجه وألجأه، وفي الآية: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد)، أي فمن أُلجئ. وأصله من الضرر وهو الضيق، والضرُّ والمضرة خلاف النفع والمنفعة: وفي حديث علىّ رفَعَه أنه نهى عن بيع المضطر؛ أما في الاصطلاح فالضرورة إما فقهية أو أصولية. فالأُولى تطلق على إطلاقين؛ أحدهما على الضرورة القصوى التي تنقل المحرم إلى دائرة الإباحة، والثانية دون ذلك، وهي المعبر عنها بالحاجة. وأطلق عليها "ضرورة" في الاستعمال توسعا. وأما الأصولية فهي الضرورة العامة بالجنس. فهذه ثلاثة أقسام بيانُها كالتالي:
1.الضرورة الفقهيــــة بالمعنى الخاص:
وهي متعلقة بقدرٍ متقدمٍ من الاحتياج قد يلحق بالفرد أذىً شديدا. عرف السيوطي هذا المستوى من الضرورة بقوله: "فالضرورة: بلوغه حدًا إن لم يتناوله الممنوع هلك أو قارب، وهذا يبيح تناول الحرام." وهي التي قال عنها إمام الحرمين: "لا تثبت حكما كليا في الجنس، بل يعتبر تحقيقها في كل شخص؛ كأكل الميتة." والدردير: "الضرورة هي حفظ النفس من الهلاك أو شدة الضرر."، والجصاص: "هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل.".
2.الضرورة الفقهية (بالمعنى الاستعمالي الواسع):
لقد درج الفقهاء في كتبهم على استعمال الضرورة مع إرادة معنى الحاجة، وبخاصة عندما يكون الضرر اللاحق بالفرد أخف من ذلك الذي وصفه الفقهاء في المستوى الأول من الضرورة (بالمعنى الخاص). ومن تلك الاستعمالات ما جاء في تبيين الحقائق: "قال (وشعر الخنزير ينتفعُ به للخرَز) أي لا يجوز بيع شعره ويجوز الانتفاع به للخرَز... وإنما جاز الانتفاع به للأساكفة لأن خرْز النّعال والأخفاف لا يتأتى إلا به، فكان فيه ضرورة." ومن ذلك أيضا: "والتراب والطين في الظفر لا يمنع لأن الماء ينفد فيه، وما على ظفر الصبّاغ يمنع وقيل لا يمنع للضرورة." ومنه عند المالكية: "وقد يجوز الغرر اليسير إذا دعتْ الضرورة إليه، ولا يجوز إذا لم تدع إليه حاجة."
3.الضرورة الأصولية:
ومعناها هو ما أشار إليه إمام الحرمين بقوله: "والقسم الثالث ما يرتبط في أصله بالضرورة ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص، وهذا كالبيع وما في معناه." وقال في شأنها الإمام الشوكاني: "إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة، فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر، والمراد بالضرورية: أن تكون من الضروريات الخمس (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل) وبالكلية: أن تعم جميع المسلمين، إلا لو كانت لبعض الناس دون بعض، أو في حالة مخصوصة دون حالة." فهي ضرورية؛ إما لانتظام حياة الناس بها، أو لأن اعتبارها معلوم بالضرورة لكونها مقصودة للشارع بأدلة غير محصورة، وهذا هو الكلي المعبر عنه بالضروري كما يذكر علماء الأصول والمقاصد.
أما وقد ذكرت الحاجة مرارًا، فتعريفها في اللغة كما جاء في تاج العروس: "(والحاجة) والحائجة :المأْرَبة... وقوله تعالى: (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم.) والحاجة: القصور عن المبلغ المطلوب، يقال: الثوب يحتاج إلى خرقة." أما في الاصطلاح فتأتي على ضربين: حاجة عامة قد تنزل منزلة الضرورة، وهذه هي الحاجة الأصولية، وقد سمّاها بعضهم بالضرورة العامة، وحاجة فقهية خاصة حكمها مؤقت تعتبر توسيعًا لمعنى الضرورة.
1.الحاجة العامة (الأصولية):
قال إمام الحرمين: "والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة، ومثل هذا تصحيح الإجارة فإنها مبنية على الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضن ملاكها بها على سبيل العارية، فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره، ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ الضرورة للشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه الجنس، لنال آحاد الجنس أضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد." وقال: "...وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الأشخاص."، وقال في معناها الإمامُ السيوطي: "القاعدة الخامسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة."
2.الحاجة الفقهية:
يقول الشيخ عبد الله بن بيه: "هي من باب التوسع في معنى الضرورة والاضطرار، إذ الضرورة لفظ مشكك وهو كلي يكون معناه أشد في بعض أفراده من بعض، فمن توسع أطلق على الحد الوسيط (الحاجة) ومن لم يتوسع اقتصر على الحد الأعلى (الضرورة). وليس هذا من باب القياس وإنما هو من باب الأدلة اللفظية." وتطبيقات هذه القاعدة: الترخيص في السلم، وبيع الوفاء، والاستصناع، وضمان الدرك، وجواز الاستقراض بالربح للمحتاج، وغير ذلك مما فيه العقد أو التصرف على مجهول أو معدوم، ولكن قضت به حاجة الناس، وكذلك إذا احتيج إلى نوع من التصرفات والعقود، بحيث ينال الناس الحرج والضيق بتحريمه فأبيح لهم قدر ما يرفع الحرج منه ولو كان محظورًا لما فيه من الربا أو شبهته، بناء على أن الحاجيات تبيح المحظورات كالضرورات، وتقدر بقدرها كالضرورات.
الأصلح للإنسانية
إن تأطير الحاجة إلى فقه الأقليات بأصل الضرورة، مثله مثل انبناء الاجتهاد في فقه الأقليات على أصل الضرورة، لا يعني عدم وجود أصول اجتهادية أخرى من شأنها تحسيس الباحثين والعلماء بضرورة هذا المنهج الاجتهادي من جهة، وإنعاش الاستثمار الفقهي في باب الأقليات من جهة أخرى. من بين تلك المرتكزات الاجتهادية أصل "المصلحة"، وهي غالبا اسمٌ آخر للحاجة إذ تقوم مقامها ويشيع في اللسان الفقهي التعبير بالمصلحة عن الحاجة والعكس. وكذلك أصل "عموم البلوى"، وهو الحالة التي تشمل كثيرًا من الناس حتى يتعذّر الاحتراز منها فتستدعي تغير الحكم. وقاعدة "الاستحسان" وهي من أدق وأعقد مسالك الاجتهاد، وتكاد تكون من القواعد "المنقرضة" للاختلاف النظري الشديد حول مفهومها وتطبيقاتها المعاصرة.
لقدت فتحت فتوى ابن تيمية فضاء من الجدل؛ قبل تحريفها بطرح فكرة الدار المركبة وتجاوز التقسيم المذهبي السائد، وبعد تحريفها بتمييز مواقف المسلمين؛ فأقلية اندفعت واتخذت من الفتوى ذريعة لتمكين الكراهية وبعث الخلافات الدينية التاريخية وتغذية الإرهاب، وأقلية أخرى تريثت ورجعت إلى مصدر ومكان المشكلة وعالجته بما يجلي عذر الماضين ويؤصل لسلامة اللاحقين ويؤمّن المخالفين. فأي منهج هو الأصلح للإنسانية بعد هذا؟ ■