آخر تحديث :الخميس-28 نوفمبر 2024-12:24ص

مجلة جرهم


إسقـــاط النمـوذج الأوروبي على النمـوذج الإسلامــي.. هل يُبرِّر المناداة بالعلمانية؟

إسقـــاط النمـوذج الأوروبي على النمـوذج الإسلامــي.. هل يُبرِّر المناداة بالعلمانية؟

الجمعة - 24 مايو 2024 - 05:16 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ أ.د أحمد الدغشي أستاذ الفكر التربوي – جامعة صنعاء

أدرك منذ البداية بأن الهاجس الكلّي لدى كثير ممن ينادون بالعلمانية حلًّا لأزماتنا المجتمعية المتلاحقة؛ إنما يتمثل في اعتقادهم أن سبب الصراعات التي ترتدي ثوبًا دينيًا مذهبيًا أو طائفيًا، أو نحو ذلك وتناميها يومًا بعد آخر يُعزى إلى الدِّين، من حيث ارتباطه بالدولة أو بالسياسة، ولو فصلنا بينهما -في نظر المنادين بالعلمانية- لما حدث ذلك الاحتراب. وهو تصوّر قد يجد له منطقًا للوهلة الأولى، ولكنه منطق قاصر وتعوزه الدّقة والرؤية الكليّة الشاملة للأسباب الحقيقية الكامنة وراء نشوء ذلك الصراع وتناميه، ومدى علاقته بالدين الإسلامي في وسطيته وشموله المجال السياسي وغيره. وسترى-قارئي الكريم- أن التحقيق في ذلك يقود إلى حقيقة أن لا علاقة عضوية له بالدّين ( الإسلامي) الذي عرفته أمتنا في غالبيتها الوسطية وسوادها الأعظم، عبر أغلب مراحل تاريخها المديد، حيث كان الخلاف العلمي والأدبي والفقهي والفكري الطبيعي بين جماعاته "السلمية" أيًّا ما بلغ - مجالًا للإثراء الفقهي والفكري، دون أن يؤذن بالاحتراب، كما تؤكّده سلوكات كبار الأئمة والفقهاء قبل نصوصهم وآثارهم، وهو أمر غير ذلك النوع الآخر من الخلاف الذي جرّ - ولا يزال- إلى عنف وتخاصم وشجار وفساد ذات بيْن، وربما احتراب مسلّح بعد ذلك، حيـــث الزعم، بامتلاك الحقيقة المطلقة والمـــشروعيــــــــــــة الوحيــدة، وحرمــان الآخرين منها تمامًا، وهو ما يعـــني استغــــلال الدّين وتوظيفه، كمــا توظّــــف أيّـــة قيمــة سـاميـــة سمـــــــــــــاويـة أو أرضيــة أخرى.
مناقشة وإسقاط
وهنا سأحاول أن أبرز سببين رئيسين يكمنان من وراء تلك الدعوة إلى العلمانية، وسأقوم بمناقشتهما، وذلك على النحو التالي:
أولًا: الخلط الدائم بين التاريخين الإسلامي والأوروبي:
إن جوهر الإشكال لدى بعضنا يكمن في عدم تحرير النزاع حول مصطلح الدّين، وإسقاط كل إشكالات الدّين المسيحي، بما في ذلك مذاهبه الكليّة الثلاثة ( الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية)، وما طرأ عليه من تحريف لنصوصه، وتسلّط لرجالات دينه عليه، على كل الأديان الأخرى، والإسلام أولها، والوقوع من ثمّ في تناقضات المجتمع الغربي في إشكاله مع الكنيسة وسلطتها، إبان عصور الظلام الأوروبية، تلك التي امتدت لألف سنة، أي منذ القرن الخامس حتى الخامس عشر الميلادي، وهي ذاتها ما تسمّى بالعصور الوسطى، لتبدأ بعدها مرحلة عصور النهضة، منذ القرن الخامس عشر حتى السابع عشر، ثم عصر التنوير منذ القرن السابع عشر حتى بداية التاسع عشر .
لك أن تلاحظ الآن كيف أن بداية عصور الظلام الأوروبية كانت سنة (476م)، أي تلك الفترة التي تهيأت فيها عوامل التشكّل والبشارات، التي أرهصت بقدوم الرسول محمد - صلى الله عليه وسلّم- عام(571م)، وتشمل تلك المرحلة: مرحلة العهد النبوي والراشدي،وكل مراحل الازدهار الإسلامي، في العصر الراشدي، قبل الانحدار الذي غشى العقل الإسلامي، منذ ما عُرف بعصور الانحطاط، التي كان أبرز معلم لها ظاهرة إغلاق باب الاجتهاد، أو تراجعه العملي على نحو بيّن، منذ نهاية القرن الرابع الهجري ومطلع الخامس، بما يعني تراجع ذاتية الأمة الإسلامية وخصوصيتها وكينونتها الحضارية، وهو ما أفضى اليوم إلى مخرجات مُرّة، نتجرعها كدواء لمعضلاتنا، على حين أنه أضحى الداء ذاته، نظرًا إلى أن توصيف الحالة العربية الإسلامية ليس كتوصيف الحالة الغربية المسيحية، وهنا أصبح الأمر أشبه بطبيب يقدّم وصفة دواء لحالة أخرى غير تلك التي جاءته، بناء على توصيف خاطئ للحالة، والنتيجة ستظهر تلقائيًا في الآثار السلبية السريعة على صحة المريض، بدل معافاته .
ولعل من مظاهر الإفراط في تعاطي ذلك الدواء الخطأ، تسويغ استعمال أبرز مصطلح مسيحي يعني القسس والبابوات والمشتغلين بشؤون الكنيسة ( رجال الدِّين)، لوصف علماء الشريعة وفقهائها ومفكري الإسلام وأعلامه، بوصفهم جميعًا (رجال دِين)، مما يؤكّد على مدى تأثير المنهجية الغربية واستحكامها، حتى في تناول بعضنا قضايا الدّين الإسلامي، محكومة بتلك المنهجية، على حين أن كل مكلّف في الإسلام ذكرًا كان أم أنثى، معني بدور (رجل الدِّين)! أي أنه مكلّف بتكاليف الإسلام، وينبغي أن يلتزم توجيهاته في اعتقاده وعبادته وسلوكه العبادي العام والخاص، بوصفه مسلمًا، حتى لو لم تكن له علاقة تخصصية ومعرفية بتلك العلوم والمعارف، وفقًا لقول الحق – تعالى-: ﴿قُلْ إِن صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَولُ الْمُسْلِمِينَ) وهي آية واضحة صريحة في أنّ شؤون المسلم محكومة بالجملة بمعايير الشرع الحنيف، في غير مغالاة ولا مجافاة، وهو أمر يصعب تصوّره – بطبيعة الحال- على من درج في بحثه ومناقشاته على مسلك التجزئة والثنائيات، وجعل النموذج الغربي حاكمًا على فكره ومسلكه - طبعًا لا أقصدك شخصيًا بهذا التوصيف-.
لا مقارنة
بناء على كل ذلك؛ فإن طبيعة التاريخ الإسلامي مختلف عن طبيعة التاريخ المسيحي، وحتى الخلافات المذهبية في الإسلام، لا يمكن مقارنتها بالخلافات في المسيحية، من وجوه عدّة، أبرزها أنها لدى الأول تظل في إطار الإسلام في كليّاته وأصوله، لدى أبرز التيارات الإسلامية الفاعلة، وأعني بها السنّة والشيعة الإمامية الجعفرية- بوجه أخص- وأيًّا بلغ الجموح لدى المذهب الأخير هذا؛ فمن العسير مقارنته بأيّ من المذاهب المسيحية الثلاثة، علاوة على أنه لا أساس في الفكر الإسلامي العام لظاهرة الصراع بين العلم والعقل والدِّين من جانب، أو بين الدّين والسياسة - وليس التسييس- من جانب آخر - وذلك أمر مركزي في الحوار، وجدير بالتأكيد عليه بين الفينة والأخرى، إذ هو الإطار المرجعي أو البراديم لأي نزاع عملي قد يبدو مشكلًا في ثنايا تطبيق الفكر الإسلامي، وذلك على خلاف الوضع في المسيحية والغرب.
وفق ذلك الإطار المرجعي تؤكد كل المعطيات القرآنية والنبوية، مؤيّدة بالعطاء العلمي والحضاري للأمة الإسلامية في عصور ازدهارها خاصة، تعانق العلم مع الدين، وتآزر التوحيد مع العقل والمعرفة البرهانية. وقد كتب في هذا مفكرون وعلماء وكُتاب غير مسلمين من مختلف التخصصات - ناهيك عن المسلمين- ولعل من أبرزهم كريس موريسون صاحب كتاب (العلم يدعو للإيمان)، أو موريس بوكاي في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة)، أو ما ورد في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) لأكثر من 30 عالمًا أمريكيًا، وغيرهم كثير، حيث تلك عناوين قديمة نسبيًا، هذا عدا ما كتبه أو قدّمه مبرّزون عرب ومسلمون في هذا الباب أمثال عبد الرزاق نوفل، أو نديم الجسر، أو وحيد الدّين خان، أو مصطفى محمود، أو صبري الدمرداش.
ثانيًا: ضعف إدراك طبيعة الإسلام وفلسفته الشاملة:
إذا أدركنا الحقيقة الأولى السابقة في اختلاف جذور الفكر الإسلامي وحضارته عن مسار الفكر الغربي وإفرازاته؛ فلست أجد منطقًا علميًا، أو مسوِّغًا موضوعيًا للإصرار على أن تبقى العلمانية تحت أي عنوان (مؤمنة ) أو (معتدلة)أو (جزئية) أو (ثالثة) أو (تمييزية)هي النموذج القياسي الحاكم (Paradigm)على كل علاقة بين الدّين والدولة، مادام أن الإسلام يمتلك نظامًا متفرّدًا، في أصوله وكليّاته وفي تشريعاته ونظمه، بحيث لا يحتاج إلى نظام آخر، على نحو استيراد أو تلفيق، مع بقاء مساحة في إطاره لما يسمّى بالمصالح المرسلة، أو ما يمكن تسميته اليوم بالمتغيرات والمستجدات أو (النوازل) -وفق التعبير الفقهي- أو هي تلك المسائل الجديدة التي يمكن الإفادة في معالجتها من كل التجارب الإنسانية الناجحة، خاصة في الجوانب الإدارية والتقنية ونحوهما، ولكن في إطار المرجعية الإسلامية الكليّة أيضًا؛ وحينها ليس ثمّة ما يسوّغ الاستعارة الحرفية، أو الاستنساخ الأعمى للنمإذج الغربية أو سواها، أو حتى تقديم (خلطة) هجينة تقتحم أسوار مجتمعاتنا في سياق الغزوة الثقافية والهجمة الحضارية لقوى الاستعمار الحديث، سواء قام بها بعضهم بقصد أم بغير قصد، حين تقدّم بعناوين تلفيقية بديلة، خاصة إذا ما تذكّرنا ما سبقت الإشارة إليه، من علاقة الودّ تلك بين العلم والدّين، من جهة، وغياب بُعد الصراع بين الدّين والدولة في الحضارة الإسلامية، من جهة أخرى. زد على ذلك توافر عناصر نظرية سياسية إسلامية متكاملة في البناء النظري، اشتغل عليها علماء ومفكرون في القديم والحديث، بما يليق مع ظروفهم الزمانية والمكانية، مع التأكيد على أن بعضهم من المحققين وأعلام الفكر السياسي الإسلامي، كما أن بعض الجهود المعاصرة ذات العلاقة قُدِّمت في صورة أطاريح علمية من كبريات المؤسسات الأكاديمية، بما فيها بعض الجامعات الغربية. ومن العيب الأخلاقي والمنهجي، أو من قبيل " بَطَر الحق وغمط الناس – وفق التعبير النبوي- أن يشطّب على تلك الحقيقة وعلى كل تلك الجهود، وترمى جميعها في سلّة المهملات، لمجرّد اختلاف في تصوّر بعض العناصر والمكوّنات، أو بعض الخصائص والشروط، أو جهل بعضنا بذاته، وتصديق ما يردّده خصوم الإسلام أو الجاهلون بحقيقته من أبنائه، والافتتان بما أصفه بـ(معبود) أو (مقدس) العلمانية، وذلك بعد أن يلاحظ ذلك الإصرار على الجهل بالذات، والمسارعة إلى تصديق وهم الحتمية في استيراد أو تلفيق نموذج علماني بهذه الصيغة أو بتلك، ولا خيار لك إلا العلمانية بأيّ من صيغها، بوصفها غدت النموذج القياسي الحاكم الحتمي، ولا موقع لسواها، وإذا وجد فبتكييفه معها، بحيث لا يخرج عن أيّ من صيغها! على حين أن الحقيقة التي يقرّ بها بعض دارسي الظاهرة العلمانية في سياقها التاريخي الغربي كعزمي بشارة – مثلًا- " أن العلمنة كما تروّج في العلوم الاجتماعية في الغرب، بشكل عام هي أنموذج (بردايم). إنها مجموعة فرضيات ونظريات متسقة في فهم التحوّل التاريخي في الحداثة، هذه حقيقتها، وهذا وَهْمُها أيضًا، إنها تشكّل بلا شك جانبًا مهمًا من الحقيقة، لكنها لا تفسّر كل شيء، وتبقى ظواهر كثيرة ممتنعة على هذا الأنموذج، خارج نطاق تفسيره... يهمنا هنا التأكيد أن هذا البردايم يتعلّق في النهاية بالدولة، لأن العلمنة في رأينا هي غالبًا عملية تقديس في الوقت عينه، فهي حين تقصي الدِّين عن مجال ما( ولا سيما إذا كان هذا المجال غير العلم) لا تكتفي بإقصاء الدِّين، بل تقدّس مرجعيات أخرى مثل الدّولة.
اعترافات
هذا رغم أن ثمّة اعترافات ينؤ بإيرادها المقام في الاعتراف بهكذا حقيقة، أعني حقيقة أن الإسلام يمتلك نظرية شاملة توائم بين جوانبه المختلفة بما فيها النظام السياسي. وإذا كان من المعلوم لدى البعض أن ثمة مؤلّفين وباحثين وعلماء وكتابًا ومفكّرين غير مسلمين اعترفوا بتلك الحقيقة عن الإسلام فأنصفوه؛ فإن من النادر – في ظني -الاعتراف بالحقيقة ذاتها من قبل كتّاب الموسوعات والقواميس والمعاجم ودوائر المعارف ونحوها، على ذلك النحو، بدون إضافة ما يعني براءة الكاتب أو فريق العمل من الاقتناع بذلك، وغاية ما في الأمر أن الإسلام يقدّم على ذلك النحو من قبل أتباعه، بيد أنه لفت نظري عمل غراهام ايفاتز وجيفري نوينهام في قاموسيهما عن العلاقات الدولية عند تعريفهما للإسلام، حيث ميّزا بينه وبين اليهود ية والنصرانية – وهما من الديانات السماوية الأصلية- بكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتميّز بامتلاكه نظامًا شاملا، حيث يعدّ " هذا الصهر للجوانب الأساسية والقانونية والروحية في نظام معقّد واحد هو الإنجاز الفذّ العظيم للتعليم الإسلامي. فالثنائية المسيحية بين ما هو مقدّس وما هو دنيوي، وبين الكنيسة والدولة، وإعطاء قيصر ما هو لقيصر، ولله ما هو لله، هذه الثنائية لا يُعترف بها بهذا المعنى في الإسلام، كما اعترف بحقيقة الشمول في نظام الإسلام هذه عدد من المستشرقين الغربيين أمثال نللينوالذي يقول:" لقد أسس محمد في وقت واحد دينًا ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته"، كما يقول شاخت:" على أن الإسلام يعني أكثر من دين. إنه يمثل نظريات قانونية وسياسية. وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة، يشمل الدين والدولة معًا". ويقول الأستاذ ستروثمان الإسلام ظاهرة دينية سياسية، إذ إن مؤسسه كان نبيًا، وكان سياسيًا حكيمًا، أو رجل دولة". ويقول ماكدونالد " هنا – أي في المدينة- تكوّنت الدولة الإسلامية الأولى، ووضعت المبادئ الأساسية للقانون الإسلامي". أما السير توماس أرنولد فقال:" كان النبي في نفس الوقت رئيسًا للدين ورئيسًا للدولة" . ويقول جب: " عندئذٍ صار واضحًا أن الإسلام لم يكن مجرّد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعيّن في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به".
نظام شامل
الشريعة الإسلامية بمعناها العام الشامل، أو الإسلام -بتعبير مباشر-: نظام شامل؛ حاصل حقيقة العلم والعقل والتاريخ والواقع، لدى الأمة الإسلامية بكل أطيافها، فالشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال المكلّفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا ولها فيها حكم من الأحكام الشرعية الخمسة، كما قرّر ذلك الأصوليون والفقهاء، من كل الطوائف والمذاهب المنتسبة إلى الملّة.
إننا حين نميّز بين توافر النظرية وسلامتها من جانب، والتطبيق وما قد يعتريه من أخطاء محتملة عند التطبيق شأن أي عمل إنساني من جانب آخر؛ فإننا نهدف كذلك إلى إبراز الفرق بين هذه الحالة وحالة فقدان الفكر الكنسي تلك الميزة الإيجابية، وهذا محدّد أساس للحوار.
لا يخرج تطبيق النظرية السياسية الإسلامية عن أي تطبيق إنساني، أي أنه عرضة للخطأ كأي عمل يقوم به فرد أو جماعة، وهنا تبرز المساحة الواسعة للمرونة وإعمال العقل والاجتهاد، والاستفادة من تجارب الآخرين، في ضوء المحدّدات الكلية للنظرية.
ضرورة التمييز
وهنا -ومع التأكيد على أن المقارنة بين الخلاف في المذاهب الإسلامية والمذاهب المسيحية؛ مقارنة غير منهجية ولا موضوعية-؛ فلعلّه من المناسب التمييز بين حالتين من فهم النظرية السياسية الإسلامية لدى الأمة بسوادها الأعظم، من مختلف المدارس والمذاهب التي يجمعها شعار عام واسع " أهل السنة"، فتلك حالة عامة هي التي أعنيها بتوصيفي، وبين حالة خاصة، هي حالة طائفة من طوائفها بكل تفرعاتها ترفع شعار " التشيّع لأهل البيت"، فهذه الحالة خارجة عن سياق هذا التقرير.
إن التمييز بين الحالتين هام للغاية، لأنه يقرّر لنا في الحالة الأولى أن الحكم في ضوء النظرية السياسية الإسلامية، على أهميته وضرورته يظل في تفاصيله مبحثًا فقهيًا فرعيًا قابلًا للاجتهاد، بالصواب والخطأ، وليس ركنًا عقائديًا أصوليًا، كما هو الشأن في الحالة الأخرى ( طائفة الشيعة)، ولا سيما لدى الشيعة الإمامية الجعفرية، تلك التي تعدّ هذا المبحث في أصول العقيدة، حيث تؤمن بالنص على أئمتها، بمن فيهم الإمام الثاني عشر الغائب- وفق توصيفها- على أن الملاحظة الجديرة بالتأكيد في هذا السياق تكمن في أن كون مبحث الحُكم أو السلطة السياسية، أو الدولة- بتعبير أدق- في الفكر السياسي الإسلامي، وفق الحالة العامة المشار إليها؛ لا تؤذن بالاجتهاد الذي يتجاوز أحكام الإسلام ونظمه الكليّة في التشريعات المختلفة في مجالات : القضاء و الاقتصاد و التربية و الاجتماع والعلوم والإعلام والثقافة والفن والعلاقات الدولية ...إلخ، ذلك أنه وإن جاءت مسألة الحُكم ضمن المباحث الفقهية الفرعية لكنها – بالمقابل- تُعدّ قضية كليّة في جوهرها، وموقعها في خارطة الفكر الإسلامي، إذ هي من قبيل القضايا المعلومة من الدّين بالضرورة، بمعزل حتى عن أبعد الاجتهادات مذهبًا، وهي تلك التي ترى أن الدولة في الإسلام وسيلة لا غاية، فالواقع أنه لا يوجد مجتمع بشري من غير سلطة وحكم، إلا إذا خرج عن طبيعته البشرية، واختط له خطًّا ملائكيًا، خارجًا عن علم الاجتماع الإنساني والسياسي، تحت أيّ مسمّى، ولذلك فالسلطة ضرورة بشرية وشرعية في آن، وحتى على فرض التسليم بذلك القول الذي يرى أن الدولة في الإسلام وسيلة لا غاية، فالوسيلة هنا تأخذ حكم الغاية، من قبيل القاعدة الأصولية المحكمة " مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وتظل العبرة بالمرجعية، فهل مرجعية هذه الدولة " الوسيلة" هي الشريعة الإسلامية"؟ أم مرجعية أخرى؟ فإن كانت الشريعة فلا فرق عملي – ساعتئذٍ- أما إن كانت المرجعية لغير الشريعة، فلا يجدي - حينئذ - حديث عن غاية ناهيك عن وسيلة. وبناء على ذلك فمن غير الدقيق الخلط الذي قد يقع فيه بعض من لا يميّز بين حالتي الدولة في الفكر السياسي الإسلامي "السنّي" والدولة في الفكر السياسي الإسلامي "الشيعي"، إذ تأخذه ردّة الفعل – من غير تحقيق غالبًا- ليستنتج أن كون الدولة في الفكر السياسي الشيعي من قبيل الأصول لا من قبيل الفروع، وتؤمن بالنص على الأئمة، وعكسها لدى الفكر السياسي السنّي؛ يعني أن أمر الدولة لدى الأخير (السنّي)، تُصبح من قبيل الاجتهادات التي تتيح للأمة الاقتصار على المبادئ الكليّة العامة، والقيم المقاصدية، المراعية فقط للشورى والعدالة والحرّية ونحوها، من غير استصحاب النصوص المتضمنة لتفاصيل تلك المبادئ والقيم ونحوها، والمضي في الاستناد إلى النصوص الواردة في الكتاب العزيز والسنّة الشريفة الصحيحة، المبيّنة لجملة النظم الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والقضائية والثقافية والإعلامية والفنيّة وغيرها، بل بلغ الأمر مع بعض من يردّد مقولة إن النظرية السياسية في الإسلام، مجرّد مسألة فرعية درجة التخلّي عن القضية برمّتها ومرجعيتها، إذا رأى المجلس النيابي أو ما في حكمه أن تصبح المرجعية لغير الشريعة، بوصف ذلك أمرًا اجتهاديا فرعيًا، وليس قضية أصولية منصوصًا عليها، كما هو الحال في الفكر "الشيعي"، ويغيب عن إدراك من ينحو ذلك المنحى، أن كون مبحث الحُكم أو النظرية السياسية في الفكر السياسي الإسلامي " السنّي" مبحث في الفروع، لا يختلف من هذه الناحية عن مبحث " الصلاة: الذي هو في الأصل الركن الثاني من أركان الإسلام، بحيث لا يستقيم إسلام مسلم من غير الصلاة إجماعًا، على أن أحكام الصلاة بتفاصيلها مبحث فرعي، يُبحث عادة في المصادر الفقهية، ويوضع مع المسائل الفرعية، وتصنّف أحكامها ضمن مجال أحكام العبادات (فقهيًا)، فهل يحيلها ذلك من موقع (الركن الثاني من أركان الإسلام)، ومرتبة (المعلوم من الدّين بالضرورة) إلى مسألة اجتهادية فرعية عادية، يصل بالمسلم الحال إلى درجة تجاوزها، أو بعض أحكامها الأساسية، لمجرّد ورود مباحثها التفصيلية الفرعية في المصادر الفقهية- وليس العقدية-! ذلك هو المثال الأقرب لمقصود علماء أهل السنّة، بأن نظرية الحكم في الإسلام قضية تتعلق بفروع الأحكام لا بأصول العقيدة، لورود نصوص عديدة تنظّم الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والقضائية والإعلامية وغيرها.
ختاما
أحسب أن ما مرّ من استطراد له أهميته – قارئي العزيز- لكنني أعود إلى موضوع كفاءة النظام السياسي الإسلامي فأؤكّد أنه في حالة واحدة فقط يحق لنا أن نبحث عن صيغة توفيقية تحت أيِّ عنوان من تلك العناوين أو سواها، إذا ما تم البحث العلمي والسير المنهجي الدقيق للنظام السياسي الإسلامي، وتوصلنا إلى أن الإسلام نظام عاجز عن تقديم الحل في مجال التربية أو السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو سواه، أما الإصرار على تقديم بدائل علمانية، بسبب استعارة نماذج أخرى، على خلفية فكرية معيّنة، وظروف مختلفة اختلافًا بعيدًا، فهو اعتباط منهجي، وخلل في التفكير، وإشكال أساس في نظرية المعرفة! ■