آخر تحديث :الخميس-28 نوفمبر 2024-12:24ص

مجلة جرهم


تـأمـــلات في سورة الضحى

تـأمـــلات في سورة الضحى

الأربعاء - 22 مايو 2024 - 01:34 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. محمد العامري كاتــب فــي العلــــوم الشرعيـــــــة

لا تخلوا الحياة من الهموم والأكدار والكرب التي تحيط بالإنسان من كل جانب تنهشه بصور مختلفة، وهذه الهموم والشدائد أحيانا تضيق بالإنسان حتى يحس أنه يتنفس من خرم إبرة، وهذه قضية قدرها الله في الحياة، من سننه الكونية والتي لا مناص منها وواقع مشاهد يعيشه المسلم وغير المسلم، وبه يتمايز المؤمن عن غيره بصبره وتعامله مع هذه الأحداث مستعينا بالله.
والإنسان وفقًا لذلك بحاجة إلى من ينتشله من هذه الهموم والمنغصات، ومن يزرع له أملًا ويرسم له طريقًا ويفتح له بابًا، ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبعث الأنبياء جميعًا قبله حتى يحلوا قضايا الناس الشخصية والفردية وإنما جاؤوا ليفتحوا لهم بابًا يضيئون لهم طريقًا، لكي يستبصروا ويسترشدوا به لحل قضاياهم ورفع همومهم وإن تباينت.
مدخل وإضاءة
لذلك أقف أنا وأنتم في هذا اللقاء على سورة من سور القرآن، تعتبر لمسة حانية على القلوب التي اكتوت بنار الدنيا، وعلى الأنفس التي قد حاصرتها الهموم من كل جانب، سورة مليئة بالود والرحمة والشفقة والمحبة . سورة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم في سببها، وعامة لأمته في ألفاظها .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش في مكة في جو ملبد بالمضايقات ( يا كذاب – يا مجنون – يا ساحر – يا شاعر) هذه بعض الكلمات التي أزعجتكم في قراءتها، هي ذاتها الكلمات التي كانت تقال له صلى الله عليه وسلم من قومه الذين عرفوه ووصفوه بالصادق الأمين وتواطؤوا على ذلك، ثم تنكروا له وانقلبوا عليه مكذبين ساخرين مستهزئين، ما بين تكذيبهم له وما بين تعذيبهم لأصحابه ومن آمنوا به وصدقوه بأصناف العذاب، ثم يأتيه من أصحابه من يشكو له ما يجده من أصناف العذاب فيخفف عنه ويصبره ويربط على قلبه، برغم أن ما يحمله من الهموم ما تعجز عن حمله الجبال، كيف كان يعالج هموم أصحابه وهو يحمل هم أمته على صدره ؟
كان القرآن هو سر ذلك كله !
هو خير معين له على تلك الأوجاع وعلى تلك الصعاب، التي لا تنفصل ولا تنفك ولا تتوقف عنه صلى الله عليه وسلم، فكانت الآيات التي تتنزل على قلبه عليه الصلاة والسلام هي البلسم لجراحه والعلاج للأذى الذي يجده من أهل مكة له ولأصحابه, تشد من أزره, وتداوي أوجاعه.
ولذلك كان القرآن ينزل على فترات على النبي صلى الله عليه وسلم، يمده بالقوة والتثبيت مع كل نازلة تحل به عليه الصلاة والسلام، فكان يأتيه جبريل فينزل عليه بالآيات فتنجلي وتذهب وتذوب كل الصعاب في قلبه عليه الصلاة والسلام، ليستمر العطاء ويتقوى به أصحابه .
أبطأ جبريل عنه فترة من الفترات فأصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن الشديد بسبب انقطاع الوحي وتأخره على غير عادته، والذي هو أنسه وزاده الذي كان ينسيه هموم الدنيا.
حتى أن أهل مكة عندما علموا بفتور الوحي عنه وعدم نزوله عليه، استغلوا الفرصة واستثمروا الحدث، فانطلقت ألسنتهم بالشائعات والأكإذيب، أن محمدًا قد قلاه ربه وتركه، لقد تخلى عنه، لقد ذهب شيطانه كما يزعمون .
ما كانت هذه الشائعات والأكاذيب لتفت في عضده أو توهن من عزيمته عليه الصلاة والسلام، أو أن يلتفت إليها ابتداءًا، لكن تأخر الوحي الذي هو أنسه وسر قوته أمام كل هموم الدنيا هو الذي يحزن قلبه عليه الصلاة والسلام إذ أنه سيفه في مواجهة المحن، كان الوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله هي زاد النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الطريق الموحش، فلما فتر الوحي عنه وانحبس عنه الينبوع، استوحش النبي عليه الصلاة والسلام وبقي أيامًا وهو ينتظر.
والضحى
في هذا الوقت الصعب على النبي عليه الصلاة والسلام، وفي تلك الساعة ولحظات الترقب ينزل عليه جبريل ليباشره بالقسم قائلًا ( والضحى ).
يالله! تخيلوا أيها الأحباب أن إنسانًا يعز عليك تفتقده، وبمجرد أن تقع عينك عليه يبادرك بالقسم فيقول لك: والله وأقسم بالله ما منعني عنك إلا كذا وكذا.
(الضحى) قال عنه الإمام البقاعي في نظم الدرر(101/22) : هو أشرف النهار وألطفه، وهو زهرته وأَضْوَؤُه، وهو صدره .
تلك اللحظات الصعبة التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ما تلاها من لحظات سعيدة بالوحي والاتصال بالسماء، ماهي إلا محطة تربوية ودرس من الدروس النبوية لهذه الأمة على مستوى الفرد والأمة، إن هذه اللحظات الصعبة التي تمر بنا والمليئة بالأحزان المليئة بالصعاب والتي تعصف بقلوبنا مهما بلغت قساوتها.. والضحى الذي أعقب الليل الذي سجى أنها سوف تنجلي .
أول ما نزل جبريل على رسول الله بادره بــ( والضحى ) قسم، يبدأ القسم بالضحى الذي أعقب ليل سجى وساد الدنيا وأطبق عليها وجثى، قال (والضحى) والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر مإذا بعد هذا القسم؟
(والضحى والليل إذا سجى ) لتثير هذه الكلمات إحساس وانتباه النبي صلى الله عليه وسلم، بل وكل مسلم إلى الصورة المتكررة والمألوفة والمشاهدة كل يوم، الضحى المشرق في أشد لحظات النهار إشراقًا بعد ليل مطبق، في صورة كونية متكررة شاهدة للعيان، الليل ثم الضحى، الضحى ثم الليل، فلا يتفرد أحدهما بالصورة دون الآخر، ولا ينفكان عن بعضهما البعض بحال من الأحوال، اقتضت حكمة الله بذلك، وكأن الله يريد أن يقول لنا الشدائد ليل حالك مظلم كذلك الكرب هي ليل، لكن سيأتي النهار لا محالة، وسيأتي الضحى دون شك .
فالدنيا يا محمد مليئة بالأكدار مليئة بالهموم، الدنيا مليئة يا أمة محمد بالهموم بالظلم لكنه سيزول بالوحي بالإيمان بالثقة بالله، بإحسان الظن به والتوكل عليه، فلا شي يسبق الإيمان ولا شيء من كلام الدنيا مهما بلغت حلاوته يسبق الوحي، ولا شيء يجلي الهموم وتطمئن به القلوب غير كلام الله .
ولذلك قدَّم الله الضحى على الليل في أول السورة رغم تلازمهما، ما أجمل نور الضحى بعد ظلمات الليل، فكما يتعاقب الليل والنهار منذ أن خلق الله السماوات والأرض بحيث لا يدوم حال الليل مهما انتشر وأطبق وسجى حتى يبدده النهار، كذلك أحوال الناس لا تدوم على حال واحده، فهي تدور بين الصحة والمرض، وبين الغنى والفقر، المهم أن تتيقن أن مع العسر يسرا، ولن يدوم بإذن الله عسر لأن رحمة الله اقتضت أن المحن تحمل في طياتها منحًا وأن النور يولد من رحم الظلام كما يقول ابن عطا الاسكندراني في حكمة بالغة له قال: ( من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصر نظره ).
(مَا وَدعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)
هنا الجواب، هنا أنس الحبيب بمن يحب، هنا الطمأنينة.
يا محمد إن ربك ( ما ودعك ) فيما مضى فكيف يتركك فيما هو آت؟
وكيف يودع ويترك الحبيب حبيبه؟ كيف يودع الرب قلبًا أنس به وناجاه وتلذذ بآياته وكلامه؟ الله لا يجافي عبدًا تعلق قلبه به، بل سيقربه إليه، ويدنيه منه، ويعز شأنه ويعليه .
وللآخرة خير لك من الأولى
الآخرة في هذه السورة دون غيرها من السور جاءت مقابل الأولى ولم تأت مقابل الدنيا فلم يقل وللآخرة خير لك من الدنيا، في إشارة إلى أن ما سيأتي لك في المستقبل خير لك أيها الرسول مما مضى عنك.
ولسوف يعطيك
وسوف يعطيك حتى ترضى، فمن أحسن إليك في الأولى سوف يكرمك في آخر الأمر .
وأطلق سبحانه وتعالى هنا العطاء ولم يحدده بشي لينطلق الخيال ليشمل هذا العطاء كل شيء ولم يخصصه بشيء معين إكرامًا للرسول وتوسيعًا للعطاء بكل معانيه وصوره .
وقال (يعطيك) ولم يقل يؤتيك؟
الإيتاء ربما تنزع النعم بعده بينما العطاء لا يَرِد عليه النزع (يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء)، ومن أعطي العطاء فله حرية التصرف فيه (إنا أعطيناك الكوثر) ملكًا للرسول، خلافا للإيتاء قد لا يُمكَّن به للشخص ليتصرف بما أوتي؛ قال الله لسليمان: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) أي له الحق بالتصرف فيه كما يشاء.
(فترضى )
أطلق الرضى كما أطلق العطاء ولم يقيده، فجعل العطاء عامًا وجعل الرضى كذلك عامًا، وفوق كل هذا فإن المعطي هو الله الكريم وهنا يتوقف الخيال والحدود للعطاء كمًا ونوعًا.
واختيار هذه الكلمة هنا لا يمكن أن يحل مكانها غيرها وصفًا وتوضيحًا، فالرضى هو من أجلِّ النعم على العبد دون الإنسان، وهو أساس الاستقرار والطمأنينة وراحة البال، فإن فُقِد الرضى حلت الهموم والشقاء ودواعي النكد على العبد.
كما أنه لو فقد في جانب من جوانب الحياة فقد الطمأنينة والاستقرار بقدر ذلك الجانب المفقود، ولذا جعل الله تعالى الرضى صفة لأهل الجنة: (فهو في عيشة راضية) (فارجعي إلى ربك راضية مرضية).
وعدم الرضى يؤدي إلى اليأس والقنوط والإحباط والمشقة، ومع الرضى راحة والراحة من دون رضى نكد ومشقة، والفقر والحاجة مع الرضى غنى والغنى بدون الرضى فقر وإفلاس، والحرمان مع العطاء رضى والعطاء من دونه حرمان.
لذا فإن لفظ الرضى هنا هو نعمة من أجل النعم، ولها دلالتها في الحياة عامة وليست خاصة بالرسول الكريم، فإذا رضي الإنسان ارتاح وهدأ باله وسكنت روحه، وإن لم يرض حل معه التعب والنكد والهموم والقلق ولو اجتمعت بين يديه كل أسباب الراحة المادية .
( ألم يجدك يتيمًا فآوى )
فمن آواك واعتنى بك وأنت يتيم مات أبوك ثم أمك ثم عمك ؟ وزينك بحسن الأخلاق والتربية والعناية؟ خلافًا لما ينشأ عليه الايتام في الغالب لفقدان الأب الموجه والمربي المشفق.
(ووجدك ضالا فهدى )
ومن الذي صرف قلبك عن الشرك وحرم جبهتك أن تسجد لأحد أو صنم من بين الجموع حولك الساجدة للأوثان ؟
(ووجدك عائلا فأغنى )
أغناك بكل ما يكفيك في مراحل حياتك بلطفه وفضله وتقديره، محبة لك وعناية بك، أغناك الله بتسخير أبي طالب لك، ولما ضعفت أحوال أبي طالب أغناك الله بخديجة رضي الله عنها، ولما ماتت رزقك الله الصديق ورفيق الدرب أبوبكر رضي الله عنه وأرضاه، إن هذه النعم التي امتن الله بها على نبيه، صلى الله عليه وسلم، إذا تدبرها المهموم، وتأملها من حلت به مصيبة أو وجد في نفسه أو في طريقه عوائق ومصاعب فإنها تفتح له آفاقًا من التفاؤل، ورافدًا عذبا من الأمل، تشحنه بالعزيمة والعمل، وتدعوه إلى أن ينبذاليأس والسكون وآثار الفشل والتقهقر، في مسيره وحياته، فشمول رحمة الله وعطاؤه لا حد له ولا انقطاع .
فإذا أكرمك الله في أول الأمر بالنعم، فأنعم على خلقه شكرًا للمنعم, ولذلك لن يعرف حال الفقراء غني، ولا حال المرضى صحيح، ولا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
والنتيجة
(فَأَما الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَما السائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)
فإن جاءك اليتيم فأحسن إليه وأكرمه فإنك قد عرفت اليتم وقهره، وإن مر بك الفقير السائل فاعطه ولبي حاجته فأنت فقير لولا كرم الله عليك.
نداء لكل من أنعم الله عليه بالجاه، بعد أن كان لا شيء، آواه بعد يتم، وأغناه بعد فقر، ورفع شأنه بعد ذل، أن يشكر نعمة الله عليه، فلا تقهر اليتيم، ولا تذله وتنهره، ولكن أحسن إليه، وتلطف به، ولا تكن على الضعفاء جبارًا ولا متكبرًا ولا فظًّا .
(وأما بنعمة ربك فحدِّث )
لماذا (فحدِّث) ولم يقل (فأخبر)؟ الإخبار يكفي ويقوم ولو من مرة واحدة فيكون إخبارًا، أما التحديث فهو يقتضي التكرار والاستمرار أكثر من مرة، وفي سياق الآية يجب أن يتكرر الحديث عن الدعوة إلى الله مرات عديدة ولا يكفي قوله مرة واحدة، ولهذا سمى الله تعالى القرآن حديثًا (فليأتوا بحديث مثله) فمعنى (فحدِّث) أي أكثر وداوم من الحديث عن النعم والمنعم.
قلِّبْ صفحات حياتك؛ لترى نعم الله عليك، منذ أن لم تكن شيئًا، إلى أن أصبحت شيئًا مذكورًا
تجليات
- تجلى في هذه السورة وبوضوح علو شأن ومكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه، ومحبة الله له وقربه منه وفضله عليه ومكانته عنده .
- الله وليُّ المؤمنين، وهذه الولاية تجدُ معانيَها في النصرة والرعاية، والهداية والإرشاد... إلخ، لكن الله تعالى يختبرُ عباده المؤمنين فيضعهم في مواطن الابتلاء؛ لينظر مإذا يفعلون؟ فإنه رغم ابتلاء الله تعالى للعبد، فهو لا يخرج عن موطن ولاية الله تعالى له وعنايته ورعايته به .
- تكررت كلمة ربك في السورة ثلاث مرات على قصرها ؟ الرب هو المعلم والمربي والمرشد والقيم، واليتيم يحتاج لمن يقوم بأمره ويرعاه ويعلمه ويوجهه ويصلح حاله، وهذه من مهام الرب، واليتيم يحتاج هذه الصفات في الرب، والضال يحتاج لمن يهديه والرب هو الهادي، والعائل الفقير يحتاج لمن يقوم على أمره ويصلحه ويرزقه، فكلمة الرب تناسب كل هذه الأشياء وترتبط بها ارتباطًا كليا. وكثيرا ما ارتبطت الهداية في القرآن الكريم بكلمة الرب (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (يهديهم ربهم بإيمانهم) (الحمد لله رب العالمين.... اهدنا الصراط المستقيم) ■