آخر تحديث :الأحد-09 مارس 2025-07:58ص

منوعات


أبعــــاد ومظاهــر هُوِيتنــا اليمنيـــة

أبعــــاد ومظاهــر هُوِيتنــا اليمنيـــة

الأحد - 19 مايو 2024 - 02:52 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ موسى المقطري كاتب ومحرر صحفي

تكرر في الآونة الحديث عن الهُوِية اليمنية بطريقة عفوية جُيّر فيه التركيز على بعض مظاهرها دون البحث في حقيقة هذه الهُوِية وأبعادها كحالة عامة وليست نشاط فردي، ودون التركيز على أنها شعور تشاركي ينمو ويزدهر بشكل جماعي، تلتقي فيه عدة عوامل وارتباطات حصيلتها تكوين هذه الهُوِية، وفي هذه السطور سأحاول البحث بروية وعمق عن أبعاد الهُوِية اليمنية في محاولة لتحقيق فهم أعمق للقضية، وتطوير التناول لها من زاوية أوسع وأشمل .
مفهوم الهُوِية :
يُعرِّف المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية "الهُوِية" فلسفيًا بأنها: "حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره ".
وفي الإنجليزية تعني الهُوِية: "تماثل المقومات أو الصفات الأساسية في حالات مختلفة وظروف متباينة، وبذلك تشير إلى الشكل التجميعي أو الكل المركب لمجموعة من الصفات التي تكون الحقيقة الموضوعية لشيء ما، والتي بواسطتها يمكن معرفة هذا الشئ وغيره على وجه التحديد".
ويرى المفكر محمد عمارة "أن هُوِية الشيء ثوابته التي لا تتجدد ولا تتغير، وتتجلي وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانتها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة، فهي كالبصمة بالنسبة للإنسان يتميز بها عن غيره وتتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أزيلت من فوقها طوارئ الطمس، إنها الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتميًا لتلك الجماعة".
على المستوى البشري من المستحيل أن نجد شعبًا من غير هُوِية، فلكل مجتمع أو أمّة عددًا من الخصائص، والسمات الاجتماعية والمعيشية والنفسية والتاريخيّة المتماثلة، وهذه السمات تعبّر عن كيانٍ ينصهر فيه أفراد منسجمون ومتشابهون بتأثير من هذه الميّزات والخصائص التي تجمع ما بينهم، ونحن اليمنيون لنا هويتنا الخاصة سواءً على المستوى الإسلامي أو الوطني أو العربي، وهذه هي الأبعاد التي تصنع هُوِيتنا اليمنية، ولمن أراد اعتبارها المكونات فله ذلك، ولا مشاحة في المصطلحات كونها تؤدي إلى المعنى ذاته.
1. البُعد الإسلامي
منذ ظهور الإسلام كان اليمنيون سبّاقون إلى الالتحاق بركبه برضى وقبول يتناسب مع طبيعة اليمني الميال إلى التسامح أكثر منه إلى العناد والتكبر، ولأن قيم الإسلام تناسبت مع قيم وأخلاق اليمنيين دخلوا فيه سلمًا لا حربًا، وهذا كله أثر بشكل كبير في محبة اليمنيين للإسلام، فأصبح ذا أثر فاعل في تكوين الهُوِية اليمنية ويشكل البُعد الأوسع والأكبر في هذه المعادلة، ولا يمكن إهمال التداخل بين البُعد العربي والبُعد الإسلامي كونهما يكادا يكونا لصيقين فالإسلام نزل في بلاد العرب وبلغة العرب، وأصبح التناغم بينمها حاضرا.
"كما أن الهُوِية الإسلامية لا تلغي الهويات الأخرى داخلها، مثل الهُوِية القومية والقبلية ولكنها تضبطها بضابط الإنسانية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، (كلكم لآدم وآدم من تراب) وخلاصة تعامل الإسلام مع هذه الهويات هو محاربة الجاهلية العنصرية داخلها، حتى وإن مورست باسم المهاجرين والأنصار" والإسلام جاء مُهذِبا ومُنظمِا لما يمتلكه العرب عامة واليمنيون خاصة من مقومات ولم يتصادم معها، ونزل القرآن الكريم بلغة العرب فزادها ثباتًا وانتشارًا، كما لم يطمس الإسلام البُعد الوطني لليمنيين فصاروا مسلمين عرب يمنيين بدون أي انفصام أو صدام .
من أهم المظاهر التي تأثرت فيها الهُوِية اليمنية بالبُعد الإسلامي هي الأخلاق والقيم التي جاء بها الإسلام كالعفو والتسامح والإحسان إلى اليتيم والضعيف وإخراج الصدقات والزكوات والإصلاح بين الناس، وهذه القيم كلها انعكست على شخصية اليمني وأصبحت جزء من هُوِيته .
ومن المظاهر كذلك للهُوِية في بُعدها الإسلامي (الطعام والشراب) فالإسلام حرّم أكل الخنزير وشرب الخمر وأكل الميتة، وهذا كله انعكس على مظاهر الهُوِية اليمنية فيما يتعلق بهذا الجانب، فاليمني يشرب القهوة كجزء من هُوِيته لارتباط البن باليمن منذ القدم، بينما ينبذ الخمر رغم أن العنب أصيل في الهُوِية الوطنية اليمنية، كما أمر الإسلام بستر العورة فانعكس ذلك على نوع اللبس الشعبي والتراثي وشكله وطريقة لبسه.
لا يمكن حصر مظاهر البُعد الإسلامي في الهُوِية اليمنية كون الإسلام دين شامل ينظم كل جوانب الحياة لكن يمكن ملاحظة بعض المظاهر التي يظهر فيها تمازج الأبعاد في الهُوِية اليمنية، فما يحصل مثلًا في الأعراس من مراسيم وعادات كلبس الزي الشعبي (بعد وطني) والعقد الشرعي (بعد إسلامي) والجميع يتحدث ويغني وينشد بالعربية ( بعد عربي).
2. البُعد الوطني :
"الهُوِية الوطنية في كل أمّة هي الخصائص والسمات التي تتميز بها، وتترجم روح الانتماء لدى أبنائها، ولها أهميتها في رفع شأن الأمم وتقدمها وازدهارها، وبدونها تفقد الأمم كل معاني وجودها واستقرارها، بل يستوي وجودها من عدمه".
تشمل عناصر الهُوِية الوطنية : الموقع الجغرافي، التاريخ، الاقتصاد، الحقوق والواجبات المشتركة، الرموز الوطنية كالعلم والنشيد الوطني، الموروث الثقافي، التراث المادي واللامادي، ويمكن كذلك اعتبار التراث جزء من التاريخ لكن تبرز إشكالية المدى الزمني فليس كل تراث يمتلك من العمر ما يمكن اعتباره تاريخًا، كما يتقاطع الموروث الثقافي مع التراث في جزئيات عديدة، لكن في المجمل يمكن اعتبار كل منهما عنصرًا مستقلًا -وليس المقام هنا مناسبًا لتفصيل الأمر- وسيكون التفصيل عن بعض صور وأشكال الارتباط بالهُوِية الوطنية.
جغرافيًا "الأرض هي وسيلة الاتصال بين الأفراد وبين الجماعات لتكوين مجتمع" وفي تأريخنا الحديث وعلى صعيد الجغرافيا عانت الهُوِية اليمنية في بعدها الوطني من أثر الانقسام الذي عاشته اليمن خلال حكم بريطانيا في الجنوب والإمامة في الشمال، وهو ما جعل اليمن يمنين، ومع أن الشعور الجمعي الموحد ظل هو السائد لكن ثمة عوائق سببتها هذه التفرقة منعت الهُوِية من تأصيل ذاتها الوطني على الأقل لمدة من الزمن، وبصورة نسبية وليست كاملة، وهذا ما أدركه جيدًا ثوار سبتمبر وأكتوبر فجعلوا من إعادة توحيد الوطن هدفًا لكلا الثورتين، ورغم أن هذا الهدف لم يتحقق إلا في العام1990م لكنه شكّل إعادة تأكيد على الهُوِية الوطنية الجامعة التي آمن بها ثوار الشطرين سابقًا وثاروا تحت ظلها.
يمتلك اليمن تاريخًا أهم ما فيه أن اليمنيين منذ فجر التاريخ كانوا رجال دولة وليسوا مجموعات متفرقة لا أثر لها، وكل الآثار التي تزخر بها الأرض اليمنية تشير إلى هذا المنحى، ويُخطئ من يعتقد أن الانسلاخ عن هذا التاريخ سيكون عونًا له على تغيير الهُوِية اليمنية إلى هويات أخرى إما جزئية أو دخيلة، فاليمني من أي جهة كان يعتزّ بانتمائه لحضارة سبأ وحمير وقتبان ومعين، وينعكس هذا الاعتزاز من خلال الاهتمام بدراسة تاريخ هذه الحضارات وحضور الأسماء والرموز الخاصة بها في حياة اليمني، وهو نموذج من نمإذج تأصيل الهُوِية الوطنية اليمنية .
ومن مظاهر الهُوِية الوطنية "التراث المادي ويشمل الأثار والمباني التاريخية والتحف والمساجد ودور العبادة التاريخية والسدود" وغير المادي ويشمل الممارسات كالفلكلور بأنواعه وعلى الأخص الأزياء الشعبية والرقص الشعبي، وأشكال التعبير كالمهاجل والزوامل والحكايات والقصص الشعبية، والمعارف والمهارات كالحرف والصناعات اليدوية القديمة .
هذه نظرة خاطفة على بعض مظاهر الهُوِية في بعدها الوطني، والارتباط بها هو تعزيز لهذه الهُوِية، بينما التصادم معها أو البحث والذهاب لهويات بديلة من أي شخص أو كيان هي حالة سلبية يسميها الباحثون (أزمة هويّة) والتي ينتج عنها (أزمة وعي) تصل بمرتكبها إلى التصادم مع القناعة الجمعية والتحول إلى حالة الشذوذ الفكري انتهاءً بالعزلة الفكرية التي تقضي في الأخير على صاحبها فردًا كان أو كيانًا.
3. البُعد العربي
اليمن جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج، والذي شهد حضارات عريقة في مصر والشام واليمن، وكلها تعد جزء من التراث الإنساني العالمي، وهذه الأرض هي في الأصل بلدٌ واحد، ولم يُعرَف هذا التقسيم الجغرافي والتجزئة وصناعة الحدود إلا بعد "سايكس بيكو-1916م"
في الوقت الحالي ومع أنه لا يمكن إنكار أثر هذا التمزق على الهُوِية العربية "فإن مشكلة الهُوِية العربية نابعة من الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة" لكنه ورغم وجود 22 دولة إلا أن مظاهر الارتباط والتشابه أكثر من مظاهر الاختلاف والتمايز.
وثمة مظاهر عديدة تربط الهُوِية اليمنية بمحيطها العربي سببتها السمات المشتركة بين جميع دول المنطقة، وعلى رأس هذه المظاهر (اللغة العربية) التي تُعدّ جزء أصيل من هوية كل عربي، واليمني كغيره من العرب يعتزّ ويرتبط باللغة العربية ويتعامل بها، "فاللغة التي ينشأ فيها الفرد ويرضع لبنها ويحيط بأسرار أساليبها وعجائب تصاريفها على مر الزمن، حتى تصير ألفاظها وتراكيبها الموروثة حاملة من كل جيل بصماته، ومظهر سلوكه، وملامح شخصيته، وتصبح بوضوحها وشمولها وعاءً لمعارفه، ينتمي إليها بعقله وقلبه وخياله، يحفظها من الضياع خوفًا من أن يفقد شخصيته حين يفقدها، فمن خلال اللغة يستطيع الإنسان أن يُعَبِّر عن آرائه، ومشاعره واتجاهاته الخاصة نحو موضوعات كثيرة، وتميَّزه عن غيره من المخلوقات".
ومن هنا كان ارتباط اليمني باللغة العربية كمظهر رئيسي من مظاهر ارتباطه بهُوِيته العربية التي تجمع في طياتها أكثر من 400 مليون عربي يتشاركون نفس اللغة، وإن برزت لهجات مختلفة لكنها لا تحل محل اللغة الأم ولا تلغيها .
ومن مظاهر الهُوِية اليمنية في بعدها العربي (التاريخ المشترك) باعتبار أن الحدود المصطنعة هي جديدة، وثمة عصور وأحداث تداخلت فيها الأمة واشتركت في صناعتها لا تخص دولة بعينها، وإنما تنسب للأمة العربية ككل، أو جانب كبير منها على الأقل، أضف إلى ذلك (القضايا المشتركة) التي تخص العرب ككل ومنهم نحن اليمنيون، وتشكل جزء من هويتنا في بُعدها العربي كالقضية الفلسطينية، كما تعتبر (العادات والتقاليد والأخلاق الفاضلة) مظهر يربط هويتنا ببعدها العربي، فهناك عادات يشترك في ممارستها العرب ككل كعادة الكرم وحسن الضيافة ونجدة الملهوف وإعانة الضعيف، ومن أطرف المظاهر وألطفها (استخدام الحناء) فلا تكاد تجد بيت عربي إلا وفيه هذا النبات الرائع بشكل أو بآخر، وهو في التراث العربي القديم رمز الصحة والحظ الجيدين، وكغيرهم اليمنيون ارتبطوا به ولا زال حاضرًا كأبرز مواد التجميل للمرأة اليمنية مع تحديث وتطوير في طرق استخدامه.
هذه ليست كل مظاهر ارتباط هويتنا اليمنية بامتدادها العربي لكنها فقط أبرزها، وما يجب التأكيد عليه أن البُعد العربي للهُوِية اليمنية يظهر بوضوح في كل ممارستنا اليومية وسلوكنا العام ومناهج التعليم ووسائل الإعلام والتوجيه المختلفة وأسماء أبنائنا وبناتنا ومحلاتنا ومدننا وقرانا، ولا يمكن بالمطلق سلخ اليمن عن محيطه العربي الذي تربطه به تاريخ ولغة ومصير مشترك، ويعتبر البحث عن ارتباطات أخرى بديلة عن امتدادنا العربي هو محاولات مكتوب لها الفشل قبل أن تبدأ، لأنها ببساطة تُصادِم قناعات اليمنيين كشعب، وهذا هو الضامن الأكيد لفشلها.
ختــامــــًا :
تشكلت الهُوِية اليمنية من حاصل تمازج وتناغم جمع هذه المكونات، وانتجت تفردًا لا تجده عند شعوب أخرى، ومن الحكمة اليوم أن تظل هذه الهُوِية حاضرة بأبعادها المذكورة دون محاولة السير بها أو تجييرها نحو مزالق أخرى تُحدِث فيها تشويهًا لن تغفره الأجيال لمرتكبيه، وإحداث أي تنافر أو تصادم بين هذه الأبعاد هو محاولة للتشويش على هذه الهُوِية ولا يخدمها ■