آخر تحديث :الإثنين-20 مايو 2024-01:27ص

مجلة جرهم


مصر بين أزمات الداخل ومؤامرات الخارج.. أين تقف؟

مصر بين أزمات الداخل ومؤامرات الخارج.. أين تقف؟

الأحد - 05 مايو 2024 - 01:48 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم - خالد رمضان كاتب - مصر

في لحظة فارقة، تقف مصر "سيدة الحلول الوسطى"، كما وصفها العبقري الراحل جمال حمدان،على حافة "الزمكان" بأبعاده الأربعة، تراهن على صمود الداخل وتعاضد الخارج، لرسم وضع إقليمي جديد يجيب على الأسئلة الاستراتيجية الأهم،في منطقة مضطربة ومحملة بكافة الاحتمالات.
وعلى خلفية الحرب الإسرائيلية المتواصلة، للشهر الخامس على التوالي،على قطاع غزة الفلسطيني المحتل، يكشف الوضع الراهن لمصر، مع توتر حدودها الشرقية والجنوبية والغربية دفعة واحدة، وضعًا استراتيجيًا لم يسبق له مثيل في تاريخها كله، ما يستلزم الحاجة إلى إعادة تموضع جديدة للسياسة والتحالفات المصرية في المنطقة.
ويتزامن هذا المشهد الاستثنائي، مع وضع اقتصادي مأزوم، يضغط على صانع القرار المصري والبسطاء، الذين داهمتهم موجات متلاحقة من الغلاء وارتفاع الأسعار على نحوٍ متزايدٍ وفي فترة زمنية محدودة.
باتت المسألة المصرية مطروحة للنقاش، قبل أن تتحول إلى مأساة وفاجعة، إذا لم تحل الدولة المصرية إشكالية استمرار نزيف العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، وتعيد تموضعها إقليميا من جديد في منطقة الشرق الأوسط، التي تشهد نُذُر اضطرابات وقلاقل،في حال استمرار الوضع على ماهو عليه .
محيط الأزمات
وعلى الرغم من أهمية مصر عربيا وإقليميا، فإن تلك المكانة والقيمة معرضة للأخطار، بفعل محيط الأزمات العاصفة، التي توشك أن تدخله فيها، ما طرح تساؤلات حول المطلوب عالميًا وعربيًا للحيلولة دون ذلك.
وبينما نجح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في ترميم الشرخ،الذي أصاب علاقات مصر مع الدول،التي ساهمت أو أيدت أو دعمت صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة، عقب تنحي الرئيس المصري السابق حسنى مبارك عام 2011،فان الأسئلة التي يطرحها الوضع المصري، لم تعد محلية فقط بل إقليمية ودولية، بفعل كون مصر -الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان في المنطقة- معرضة للخطر.
جوار مشتعل
على نحو مفاجىء اشتعلت الحرائق السياسية والعسكرية على تخوم مصر التي بات عليها أن تعالج سريعا أزمتها الاقتصادية، وأن تتعامل في آن واحد مع التهديدات البرية القادمة من الشرق (فلسطين المحتلة) أو الغرب ( ليبيا ) أو الجنوب( السودان)، ناهيك عن تهديدات إثيوبيا في مياه نهر النيل وصولا إلى التهديدات القادمة من البحر الأحمر ممثلة في اضطراب الملاحة العالمية في قناة السويس، على خلفية الجحافل الغربية والأميركية، التي تتجول في مياه البحر الأحمر بدعوى تأمينه.
نجت مصر بأعجوبة، من مصير الدول الفاشلة في المنطقة، التي اجتاحهتا مايسمى بثورات الربيع العربى لكن معاناة النجاة لم تكن سهلة أو بدون ثمن، فقد تأثرت المكانة الإقليمية المصرية سلبًا بسبب الأحداث الداخلية، التي شهدتها البلاد مع مطلع العام 2011.
وساهم الاضطراب السياسي الداخلي عقب سقوط نظام الرئيس الراحل حسنى مبارك وماتلاه من صعود الإخوان للمرة الأولى في تاريخهم وتاريخ مصر والمنطقة لرئاسة دولة عربية بهذا الحجم في تراجع دور مصر التي غابت عن القضايا الرئيسية، في أعقاب الانتفاضات العربية.
وبينما كانت مصر معرضة لخطر السقوط في حرب أهلية داخلية مع مايستدعيه ذلك من تدخل أجنبي -كان محتملا- انتبهت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، إلى أن تفكك مصر، قد يؤدي إلى فوضى وعنف عارمين على نطاق مدمر عليها وعلى المنطقة بأسرها.
وساهم تحول انتباه القاهرة إلى صراعات السلطة في الداخل، بعيدا عن السياسة الخارجية، في تصاعد وتيرة التدخل الأجنبي في المنطقة، وظهور قوى إقليمية أخرى، استغلت لحظة الانشغال المصري -التي طالت- حتى صعود الرئيس السيسي إلى عرش البلاد عام 2014، بعد سلسلة من الاضطرابات الدامية والدراماتيكية.
حبيسة المكان
لهذا كان طبيعيا جدا، أن يحددالسيسي الهدف الثامن من رؤية مصر 2030 الرسمية التي أُطلقت في فبراير (شباط) 2016 في ارتباط أهدافها التنموية بالأهداف الدولية من جهة، وبالأجندة الإقليمية من جهة أخرى.
كأن السيسي هنا يعيد مقولة الأديب الكبير عباس محمود العقاد "نحن في بقعة من الأرض لا يستقر العالم إذا اضطربت، ولا يضطرب العالم إذا استقرت".
فعلى مدى أكثر من عقد كامل، تغيرت الجغرافيا السياسية التقليدية لمصر، ورغم أن موقعها يمنحها بحرين ونهرا، فقد باتت بفعل التطورات الإقليمية الحالية بمثابة دولة حبيسة المكان، بمعنى الكلمة.
رغم أن الموقع العبقري يمنحها أيضًا أفضلية جغرافية لكنها باتت حبيسة الأزمات المجاورة.
كما لو كانت دولة صحراوية، لا تمتلك أي منافذ بحرية على الاطلاق، تطل مصر بقلق على المشهد في محيطها المجاور والأقرب.
ربما باستثناء البحر المتوسط فقط، تحولت الدولة إلى شاهد على وضع استراتيجي غير مسبوق على الاطلاق.
شرقا وغربا وجنوبا، ثمة أوضاع عسكرية وأمنية تفرض ضغوطا على قدرة مصر على التحرك الطبيعي وبانسيابية في دائرة الخطر القريب.
الأمر الذي يبدو كمجموعة من اضطرابات متزامنة على الحدود الشرقية مع فلسطين المحتلة، والغربية مع ليبيا، والجنوبية مع السودان، أو التهديد الأثيوبي بمنع مياه نهر النيل، لاينبغي النظر إليه على أنه محض صدفة، أوالتعامل معه باستخفاف لا يليق، أو التقليل من شأن مايعنيه ذلك، من الحد من قدرات وإمكانيات مصر.
لحكمة لا نعلمها
خلص رئيس البلاد في لحظة نادرة، صارح بها مواطنيه الذين تساورهم مشاعر القلق والحيرة، إلى أن مايجري هو: "لحكمة لا نعلمها".
صحيح أنه لم ينطق تعبير "مؤامرة" لكن ملاحظاته تَشي بذلك.
هذا الوضع، الذي يجري على الحدود، يؤثر على القاهرة، ويضغط دائرة تأثيرها، على نحو مخيف، يتعين أن ننتبه له وإليه، ومن أجله.
إن إلقاء نظرة على ما كان تكشف ببساطة أن لدينا معضلة في علاقتنا المباشرة في الوقت الراهن بالمكان.
إبصار الموقع المصري ورؤيته تشبه إلى حد كبير نظرية "الزمكان" التي تمثل ثلاثة أبعاد مكانية، مقابل بعد زماني واحد.
ونحن أيضا في هذه اللحظة،نعيش تلك النظرية، لكننا لم نختبرها بما يكفي للخروج من هذه الحلقة المفرغة.
مشهد معقد
على نحو مفاجىء، التهبت حدودنا البرية في كل الاتجاهات، ولم يعد أمامنا سوى مياه البحر المتوسط الملغمة بملف الهجرة غير الشرعية وعمليات التهريب.
وتجذب حدودنا، المشاكل المتتالية، لتكتمل عملية إحكام الضغط ومايصاحبها من توترات.
ويتعقد المشهد أكثر بفعل جمود داخلي على المستويات السياسية والإعلامية والحزبية، تزامنا مع تحديات اقتصادية واجتماعية رهيبة .
هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها مصر، لهكذا وضع وإذا استمر الاتجاه الحالي على المستويين الاقتصادي والمالي، فسوف تفلس مصر قريبًا وما هذه إلا خطوة أولى على طريق ضيّق نحو الفشل التام للدولة.
وتكمن الخطورة الحقيقية في أن هذا الوضع يستجلب تساؤلات مقلقة،لكنها مشروعة،حول ما إذا كانت مصر تتجه نحو الانهيار؟ على الرغم من وصفها بأنها "أكبر من أن تفشل".
ولن يكون الانهيار المحتمل لمصر، محسوسًا داخل حدودها فحسب، بل ستكون له تداعيات إقليمية ودولية.
لهذا لا يمكن السماح بأن تتجه البلاد نحو حافة الهاوية، لأن سقوطها سيتخطى حدودهاوتأثيره سيكون بلا حدود،خاصة مع توقعات بأن الشعب المصري لن يعاني وحده، فالأمر سيطال أيضا القارتين الأوروبية والأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، وسيكون دراماتيكيا لدرجة لا يمكن أن نتصورها.
أكبر من أن تفشل
حسنا، والآن ما الذي يجب أن نفعله؟ وبأي طريقة، وكيف، ومتى ؟
هذه أسئلة برغم الانتظار، الذي لا يجب أن يطول .
يتعين أن نرد عليها في ظل وضعنا المدهش، الذي يشبه علامة التعجب(!) ويثير علامة التساؤل(؟)
ربما يكمن الحل في الاحتذاء بسفن صيد الأسماك التي تغادر سواحلنا رغم طولها إلى أعالي البحر بحثا عن سمك لا نجده في مياهنا الإقليمية.
لا ينبغي لمصر أن تبقى ضحية لخلل إقليمي ولا أن تتحول إلى دولة حبيسة بين المشكلات من كل حدب وصوب.
هذه مشكلات لم نختلقها ولم نقترفها، لكنها تستدعي بالضرورة صيادي الأزمات والفرص والمتربصين من الخارج.
وهي أيضا، يجب أن تستدعي حالة عربية ومصرية جديدة باتت حتمية على نحو مخيف.
ربما يتعين على الدول الغربية والخليجية، التي لطالما نظرت على نطاق واسع إلى مصر، في عهد السيسي، باعتبارها العمود الفقري للأمن في منطقة مضطربة، تخفيف شروطها لضخ أموال جديدة، والانتباه إلى حقيقة: أن منع مصر من السقوط، لا يرتبط فقط بالمخاوف من التيار المتشدد والإرهابي في المنطقة، ولا إلى سرعة المردود من هذه الاستثمارات، بقدر الحاجة الملحة إلى الحفاظ على دور مصر كقوة عسكرية وسياسية،فيماتبقى من منظومة الأمن القومي العربي.
إن مصر أكبر من أن تفشل، لأنه سيكون من الصعوبة بمكان احتواء أي اضطراب، ذلك أن الشرق الأوسط الكبير، الذي يحترق بالفعل، لا يستطيع أن يتحمل اندلاع حريق في مصر أيضًا.
يرى سامح شكري وزير الخارجية المصري: أن الحفاظ على استقرار مصر وقدرتها على الاضطلاع بمسؤولياتها في هذا الصدد لا يجذب الدعم لها لمواجهة تحدياتها الاقتصادية، والاستجابة لاحتياجات شعبها، والحفاظ على استقرارها وأمنها.
ثمة حقائق مجردة لا يمكن تجاهلها هاهنا فمصر لا تحتمّل فكّ الارتباط مع دول الخليج، كما أن مصر بحكم التزاماتها الوطنية والقومية وحتى تكون آمنة، فهي لا تملك ترف الانعزال.
التاريخ يخبرنا أن بعض أيامه القريبة والبعيدة، عرفت تمدد مصر خارج حدودها الحالية، ووصل نفوذها العسكري والسياسي إلى ما هو أبعد.
قاسم مشترك
وربما تدفع رحى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الفلسطيني المحتل، صانع القرار المصري إلى إعادة تموضعه إقليميا لتصحيح هذا المشهد الذي يتعارض مع المفهوم الكلاسيكي القديم للأمن القومي المصري وأنه يبدأ دائما من خارج حدود مصر، حيث تتسع حدود المناورة ويتعاظم الدور الإقليمي ومايعنيه ذلك من تأثيره دوليا.
تلك حقيقة يقرها التاريخ المصري حين أدرك من تعاقبوا على السلطة في حقب زمنية متفاوتة ومتباعدة أن تأمين حدود مصر يبدأ دائما وأبدًا من خارجها.
لقد ارتبطت أسماء العظام،ممن تولوا حكم مصر، بمعارك تاريخية جرت خارج حدودها، لحسم وتحييد التهديدات، التي كانت تخضع لها.
ثمة قاسم مشترك أعظم في هذه المعارك هو كونها جرت خارج حدود مصر في المنطقة مابين فلسطين والشام لترسخ حقيقة ثابتة هي: أن كل الجيوش المصرية عبرت صحراء سيناء وتموضعت خارجها لمواجهة الخطر الأعظم الذي لا يأتي إلا من تخوم مصر الشرقية.
ورغم عبقرية حرب أكتوبر عام 1973 على كافة الأصعدة ونجاح خطة الخداع الاستراتيجية التي نفذتها مصر بدعم عربي واضح ولا لبس فيه على المستويين السياسي والعسكري، فإن المعركة في نهاية المطاف جرت على الأراضي المصرية وما أثر على عامل المناورة واستخدام التكتيك لنقل المعركة إلى أرض العدو.
وبينما يتعين أن نفكر جديا في كافة الاحتمالات، التي تقود إلى مواجهة محتملة، بسبب سلوك الدولة العبرية التي ترفض حتى الآن قبول وقف اطلاق النار في غزة والرد يابجابية على مبادرات السلام العربية المطروحة منذ سنوات، والاعتراف بحدودها ما يبقيها عرضة للتجديد في كل زمان ومكان ،وأن هذه المعركة لا يمكن السماح لها بأن تدور على الأرض المصرية فتلك أحد الدروس المستفادة من عبر وعظات التاريخ والجغرافيا.
من الخطورة بمكان، أن تتقوقع مصر داخل حدودها، وأن تخضع سياستها الخارجية لمبدأ إرضاء الحلفاء والشركاء على حساب مصالحها العليا .
وينبغي أيضا لمصر التي تصنع الحرب والسلام، أن تسعى للعب دور تاريخى آخر بعد وقف الحرب الراهنة في غزة، بإعادة ترتيب أوراقها استباقًا لمجريات الأحداث وتفاديًا لكارثة العزلة الكامنة رغم ظواهر الحركة الديبلوماسية والسياسية، فأي اضطراب إقليمي جديد، سيؤدي حتما إلى حرب تتخطى دول المنطقة.
وفي تقديري فقد مثل استبعاد ملفات السياسة الخارجية المصرية، من نقاشات الحوار الوطني خطأ كبيرا صححته الحرب الإسرائيلية القذرة على غزة.
ختاما
الآن باتت الأمور كلها مكشوفة وواضحة للرأي العام ولا حجة لمن يصنع القرار، فكل الملفات التي كان يعتقد أنها في يد الحاكم باتت مطروحة للنقاش على قارعة الطريق وفي أمسيات المصريين ومقاهيهم.
ولعل في إعلان اثيوبيا مؤخرا سعيها لكسر عزلتها وسجنها الجغرافي بالحصول على ميناء مطل على البحر الأحمر بمثابة دليل على أن الطموح السياسي لتخطي المكان والزمان رغم أنه في هذه الحالة مغال وفي غير موضعه، يجب أن يكون أمرًا مصريًا بالأساس.
يقول كامل الشناوي رحمه الله في نبوءة مبكرة، وإدراك قديم بأهمية "الزمكان" معزيا:
"على باب مصر تدق الأكف ويعلو الضجيج
رياح تثور، جبال تدور، بحار تهيج،
وكلٌ تساءل في دهشة، وكلٌ تساءل في لهفة".
شخصيا، أجد عزائي في ترديد تلك الأبيات،فماذاعنكم؟!!■