آخر تحديث :الأحد-09 مارس 2025-07:58ص

مجلة جرهم


المحارب المسلم .. الأكـــثر إنسـانيـــة

المحارب المسلم .. الأكـــثر إنسـانيـــة

الثلاثاء - 11 فبراير 2025 - 05:05 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ بكر الشامي

إن مما غزا به الإسلام القلوب وأسر النفوس سماحة تعاليمه: في العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، وآدابه في السلم والحرب، وسياسته المتمثلة في عدل الحكم، وإنصاف المحكومين، والرحمة الفائقة، والإنسانية المهذبة في الغزوات والفتوح، ذلك أنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلا عجب إن أسرعت إلى اعتناقه النفوس، واستجابت إليه الفطرة السليمة، وتحملت في سبيله ما تحملت، فاستعذبت العذاب، واستحْلَتْ المرّ، واستسهلت الصعب، وركبت الوعر، وضحّت بكل عزيز وغالٍ في سبيله، وإنّ تشريع الجهاد في الإسلام لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام، أو العبثية في التلذذ بسفك الدماء وهتك الأعراض وإظهار العنتريات والعنجهيات، وإنما كان للدفاع عن العقيدة وتأمين سبلها ووسائلها، وحماية المعتنقين للإسلام، وردّ الظلم والعدوان، وإقامة معالم الحق، ونشر عبادة الله في الأرض فلمّا تمالأ المشركون على المسلمين؛ أمرهم الله بقتالهم عامة، فالإسلام شرع الجهاد لغاية الحياة لا الموت، ولم يمنع من البر والرحمة بالمجتنب للقتال وغير الصادّ عن روح الله وشرعه يقول تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة/8،9).
ولا تعتدوا
فالإسلام لم يقف عند حد أن من سالمنا سالمناه، بل لم يمنع من البر بهم والعدل معهم، وعدم الجور عليهم، وكذلك كان موقف القرآن كريمًا جدًا مع الذين قاتلوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم أو ساعدوا عليه، فلم يأمر بظلمهم أو البغي عليهم، وإنما نهى عن توليهم بإفشاء الأسرار إليهم أو نصرتهم وإخلاص الود لهم، فإن حاربونا حاربناهم، وصدق الله (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) (البقرة/190)
وهكذا رتب القرآن الثواب على إكرام الأسير، وعدّه من جنس إكرام ضعفاء المسلمين، وذكر أنه من صفات أهل الجنة الذين يكرمهم الله جزاء وفاقا فقال الله (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).
وفي قصة ثمامة رضي الله عنه، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة وذكرى، بل درس للأمم، وبيان لمحاسن هذا الدين، وكيف يحمي أعداءه، ولا يعتدي.. جاء عند الإمام البخاري ومسلم وأحمد -رحمهم الله-، يقول أبو هريرة : "بعث رسولُ الله ﷺ خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: "ثمامة بن أثال" سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي ﷺ، فقال: ما عندك يا ثمامة؟، فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ، حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ، حتى كان من الغد، فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟، فقال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله ﷺ: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله ﷺ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة، قال له قائل: "أصبوت؟ " في رواية البخاري ومسلم: قال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله ﷺ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله ﷺ.. فانظر يا رعاك الله كيف حفظ الرسول عليه الصلاة والسلام لمشرك كرامته وأكرمه حتى رأى أنه لا دين أعظم، ولا خلق أحسن من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
تعاليم ومواقف
ولقد جاءت السنة مؤيدة لما جاء به القرآن، وإليك طرفاً منها: روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم؛ فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم"،
فهذا حال المُجاهد المسلم الذي رسمه رسول الله ﷺ، ومن التعاليم أيضًا ما جاء في الصحيحين عن نافع أن عبدالله رضي الله عنه أخبره أن امرأة وُجِدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصِّبيان، وفي لفظ: "فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصِّبيان".
وعلى الدرب الذي رسمه رسول الله ﷺ مرّ أصحابه وخلفاؤه وأتباعه من بعده؛ فهذا أبو بكر الصديق يوصي أمراء الجند قائلاً: "(لا تقتلوا امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعوا شجرًا مُثمِرًا، ولا تخرِّبُنَّ عامرًا ولا تعقرُنَّ شاةً ولا بعيرًا إلا لمأكلةٍ، ولا تُغرِقُنَّ نخلاً ولا تحرقُنَّه، ولا تغلل، ولا تجبن)"، وهذا عمر بن الخطاب يكتب إلى الأجناد: "لا تقتلوا امرأة ولا صبيًّا".
فالمحارب المسلم -يا أخي- يعيش سعة دين الله وجمال شِرعته التي أرادها لخلقه من العدل والسعادة والأمان والسعة في ظل الإسلام، ولذلك قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر لرستُم ملك الفرس يوضح سبب جهاد المسلمين: "إن الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله".
مقارنات ومفارقات
وأما من الناحية العملية التطبيقية، فإننا نجد بتصفُّح السيرة النبوية ودراستها أنه على الرغم من كثرة عدد الحروب والغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ثم التي خاضها أصحابه رضوان الله تعالى عنهم فإنه لم يُعرَف عنهم أنهم قصدوا قتل ذراري وأطفال المشركين، أو قتل نسائهم أو شيوخِهم، أو تعمَّدوا الإفساد والتخريب بغير مصلحة، رغم ما تعرَّض له المسلمون من اعتداءات سافرة، وهذا ينسجم تمامًا مع الهدف السامي للحرب في الإسلام؛ فإنه وسيلة لإصلاح الناس وإرشادهم، وإزالة العوائق التي تحول دون اطِّلاعهم على الدين الصحيح؛ ولذلك فلا يجوز في دين الإسلام أن يقاتل المسلمون رغبةً في التدمير، أو إذلالاً للناس، أو تعذيبًا لهم كما كانت تفعل جيوش الأمم الأخرى كالمغول عند احتلالهم بغداد وجرائم التتار في الشام وحشود الصليبيين في الأندلس فيما سمي بحروب الاسترداد وما شهدته من جرائم ومجازر وإذلال للشعوب وتدمير كل شيء للمسلمين: مدنهم ومزارعهم وحيواناتهم ومكتباتهم ومعالمهم وطمس كل آثارهم، منفِّذين في ذلك تعاليم كتابهم الذي جاء -بعد أن حرفوه- يأمرهم بالقتل والدمار، فقد جاء في كتاب اليهود والنصارى المقدَّس عندهم جملة من النصوص التي تحثُّ على قتل الضعفاء من الأطفال والشيوخ والنساء، ومن ذلك:
"يا بنت بابل المخربة، طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يُمسِك أطفالك ويضرب بهم الصخرة "سفر المزامير (9-8-138).
ولا يتوقَّف الأمر على مجرد قتل الأطفال فقط، بل قد تعدى ذلك لما هو أبشع بكثير، مما قد لا تتحمل الطاقة الإنسانية مجرد تصوُّرِه، إنه الأمر بقتل الأجنة داخل بطون أمهاتهم بشق تلك البطون، كما يوضِّح النص التالي: "تجازى السامرة؛ لأنها قد تمردت على إلهها، بالسيف يسقطون، تحطم أطفالهم والحوامل تشقُّ" سفر هوشع (13-16).
ويتجاوز الأمر الأطفال إلى قتل جميع الأبرياء من نساء وشيوخ، كما جاء في سفر حزقيال: "لا تشفق أعينكم ولا تعفوا، الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك" سفر حزقيال (6-9).
ويتعدى البشرَ ليطول هذا الإجرام حتى العجماوات التي لا تَعرِف بأي ذنب قتلت، كما في النص التالي: "فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له، ولا تعفُ عنهم؛ بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملاً وحمارًا" سفر صموئيل الأول (3-15).
والضد يظهر حسنه الضدُّ
وبضدها تتبينُ الأشياءُ
فالقتلى في كل عزوات النبي ﷺ من المسلمين والكافرين والتي عدها بعضهم بست وعشرين على امتداد عشر سنوات، يصلون حسب الروايات الصحيحة إلى ألف أو ألف وخمسمائة قتيل.
لا يمكننا مقارنة المواقف التي شهدتها حروب النبي أو الفتوحات الإسلامية على امتدادها التأريخي والجغرافي بتلك البشاعة التي شهدتها وتشهدها حروب الصليبيين والروافض والمتطرفين واليهود سواء ضد بعضهم أو ضد المسلمين على امتداد التأريخ، ولن نذهب بعيدا إلى القرون الوسطى بل لك أن تقيس فقط ما شهدته حروب القرن العشرين من بشاعة هؤلاء في حروب الاستعمار بل والحربين العالميتين الأولى والثانية، ففي الأولى تجاوز عدد الضحايا ثمانية ملايين ونصف مليون قتيل، وعشرين مليون جريح، وفي الثانية قُتل أربعون مليونًا من العسكريين المحاربين والمدنيين العُزّل، وجُرح قرابةُ خمسةٍ وعشرين مليونًا!!، واغتصبت أكثرُ من ثلاثة ملايين امرأة؛ ناهيك عن الدمار ومحو مدينتين كاملتين بقنابل ذرية في اليابان التي لا تزال شواهدها حية في هيروشيما ونجازاكي حتى الآن.
ولا تذهب بعيداً!!؛ انظر إلى غزة ويكفيك شاهدًا ودليلاً ما يحصل هناك خلال ما يقرب من عام حتى الآن؛ وهو الأمر الذي استنكرته جميع الأمم، بل ورفض فعل الصهاينة هناك حتى اليهود أنفسهم في مناطق شتى من العالم فقد تجاوز عدد الضحايا قرابة المئة وخمسين ألف بين قتيل وجريح معظمهم من الأطفال والنساء!!
يقول غوستاف لوبون: إن الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين مُتسامحين مثل العرب، إن الإسلام هو الذي أعطى المسلمين هذه الرحمة وهذا التسامح، ونحن رأينا صورًا مختلفة مثل حرب الأفيون، وأقسى منها حروب الاستعمار الحديث، وأشدُّ منها ظلم الصهيونية وقسوتها، وحُبها للعدوان والدماء والإبادة" اهـ
عود على بدء
نعود لنقول: إنَّ الصحابةَ لما فتحوا البلاد لم يضعوا السيوف على رقاب الناس قائلين أسلم وإلا قتلتك. بل أقاموا عدل الله وحكمه في الأرض، ووضعوا الجزية على من خالفهم من اليهود والنصارى والمجوس؛ فالناس بعد هذا لما رأوا الفاتحين أهل عدل وإنصاف وصدق وإيمان، وأنهم زهاد في الدنيا، حريصون على هداية البشر، دخل الناس في الإسلام طائعين مختارين راغبين محبين، لأن هذا هو العدل، ولهذا يقول علماؤنا: "لما فتح المسلمون الشام، وحكموه، وساسوا أهله بالعدل والإنصاف والتقوى فقال النصارى: لو كان هؤلاء الصحابة زمن عيسى كانوا حواريه وأنصاره، أي شهدوا لهم بالعدل!.
وختاماً
وهكذا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال إلا بعد أن تستنفد الوسائل السلمية، والإحصائيات السابقة تشير صراحة إلى أن جيش النبوة كان يخضع لتعاليم السماء التي تشرّب قدسيتها، ولا يخضع لنصوص قانونية سرعان ما تتحول لسراب عندما تصطدم مع الواقع، وهناك فرق بين التنظير وبين حقيقة الواقع؛ ومن هذا الوجه يمكن القول أنه لم توجد حروب في كل التاريخ البشري كانت بهذا الحجم القليل من الخسائر على مستوى الأرواح أو على مستوى الممتلكات، ومن يدعي غير ذلك فليأت بأثارةٍ من علم إن كان من الصادقين، و قلة الخسائر في حروب المسلمين الأوائل تشير إلى أن هناك مبادئ مقدسة كان يخضع لها الجيش وقانوناً عاماً يحكمه.. يلخصه الإمام الغزالي-في المستصفى(١٧٦)- بقوله : "إن مقصود الشرع ليس القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل". وختاما فقد تبين الحق لكل ذي عقل وقلب، وما أخالكَ أيها القارئ المنصف إلا تبينت حقيقة سماحة الإسلام ونهج نبيه وإنسانية أتباعه لما يحملون من الحب والحق للبشرية، والله من وراء القصد والحمدلله رب العالمين ■