آخر تحديث :الأحد-09 مارس 2025-07:58ص

مجلة جرهم


الشبــــــــــــــــــاب والسِلْــــــمُ المُستـــــدام

الشبــــــــــــــــــاب والسِلْــــــمُ المُستـــــدام

الجمعة - 07 فبراير 2025 - 10:16 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. محمد بدر الدين طشوش الجامعة الأنغلو-أمريكية، براغ

يومًا بعد يوم يزداد اهتمام الحكومات والهيئات المختلفة بالاستدامة في شتى تطبيقاتها، ولعل السلم المستدام واحد من تلك المجالات التي بدأت تجلب اهتمام الباحثين والمؤسسات العلمية والمنظمات الإنسانية في الآونة الأخيرة.
تحاول هذه الورقة أن تسلط الضوء على آفاق السلم المستدام انطلاقا من مقاربة حنة آرندت التربوية-التعليمية، ورؤية جاك دريدا للمستقبل من خلال أربع نقاط وخاتمة.
‹السلم المستدام› عنوان مركّب، بل ‹السلم› نفسه مفهوم يكتنز جل جوانب حياة الإنسان. إضافةُ هذا العنوان إلى ‹الشباب› يشعرنا بمسؤولية ترسيخ فكرة السلم وضرورة توريث قيمه إلى الشباب، قبل التفكير في دور الشباب في الموضوع، فطبيعة الإنسان أنه يتعلم قبل أن يباشر القيام بأي شيء. هذه المسؤولية تذكرني بأعمال الفيلسوفة الألمانية – الأمريكية حنه آرندت في مجال الإصلاح التربوي، باعتبار الشباب الشريحة المستهدفة بالتربية والتعليم. أكدت حنة آرندت على أهمية تقديم العالـَـم للطلبة والتلاميذ بشكل صحيح. وهذا ما تسميه بـ "l’autorité" أو السلطة في العملية التربوية، التي إذا اختلت، اختلت بها العلاقة المفاهيمية للشباب مع العالم.
ضريبة الفصل بين التربية والتعليم
أول ما يجب الحرص عليه في معادلة الشباب والسلم المستدام هو الحرص على عدم الوقوع في خطأ فصل التربية عن التعليم كما حصل ويحصل في المناهج المعاصرة، خاصة هنا في الغرب. وقد توسعتُ بعض الشيء في بيان جذور الطلاق بين التربية والتعليم في كتابي الموجز عن تاريخ الإصلاح البيداغوجي والديني في أوروبا الوسطى من خلال نموذج المصلح يان أموس كومنسكي في القرن السابع عشر.
الفصل بين التربية والتعليم يؤدي إلى ترسيخ ثقافة الرفض غير المنهجي وغير الأخلاقي لكل ما هو مألوف وكل ما هو طبيعي. فالإنسان بطبيعته يرفض قبول العالم كما هو، ويرفض أيضا الخروج منه، كما يقول الفرنسي – الجزائري ألبرت كامو، فإذا لم تترسخ فكرة السلم على مستوى التربية والتعليم معا، وقعت الفوضى، وهي تشويش على قيم السلم ومساعيه كما هو معروف.
تراكمات المـاضي وإكراهات التكنولوجيا
واقع الشباب بشكل عام لا يَطبع فيهم تصورات إيجابية عن العالم في كثير من المجتمعات، ورث الشباب عالما مضطربا، غير متوازن بيئيا، غير واضح فلسفيا وروحيا، جد سريع تكنولوجيا، مع حالة من عموم بلوى أخبار العنف والكراهية، حتى أصبح السلم عند فئات من الشباب مشكِكا، مغمور المعالم نظريا وعمليا. ومن أشكل المشكلات توضيح الواضحات.
أمر آخر يعرقل تقريبَ مفاهيم السلم وترسيخَ قيمه عند الشباب، وهو أمرٌ أكثر تعقيدا من التصورات السلبية الموروثة، لأنه تحدٍ سريع، ذو طبيعة متغيرة، وطموح غير محدود، وهو التكنولوجيا. انطلاقا من عملي في البحث والتعليم، فإن كثيرا من الشباب، وبشكل أكبر من أي وقت مضى، يفضل أن يكتشف العالم من خلال التجربة الحسية عبر الوسائل التقنية، لا عن طريق الفلسفة وغيرها من الأنساق النظرية التي طالما عرّفتِ الإنسان بالوجود، في نفسه وفي الآفاق. فتجد الطالب يتتعتع ليعرّف مصطلحا واحدا، ويتردد في التعبير عن المعاني الكبيرة. ليس لأنه ورث تصورات سلبية عن الجمال والمحبة والعفو ونحوها من المعاني، ولكن لأنه جاء في عالم تفكر فيه الأجهزة وتقوم بوظائف إبداعية عوضا عنه منذ نعومة أظفاره. فحتى وإن كان الشباب متلهفا للعيش في حالة من الوئام والاحترام، فإنه يصعب عليه أن يستوعب فكرة السلم في أعمق تجلياتها وأكمل تنزلاتها، إلا نادرا.
المستقبـــل عنـد دَرِيــــدا
الأمر الآخر الجدير بالعناية في موضوع ‹السلم المستدام› هو الاستدامة نفسها. الاستدامة، في سياق السلم كما في سياقات أخرى بيئية وتنموية وتكنولوجية، تقوم على استشراف المستقبل. فكيف نقدم السلم للشباب على أنه ضرورة آنية وصيرورة (transformation) مستقبلية؟
هنا، أود إثارة تحدٍ آخر أمام هذا الإطار المفاهيمي ‹الشباب والسلم والاستدامة›. أيّ استدامة نريد أن نقدمها للشباب؟ يعتبر فهمنا للمستقبل من بين أهم محددات الإجابة.
جاك دريدا، المشهور بنظرية التفكيك (Déconstruction)، يميز بين مستقبلين انطلاقا من اللغة الفرنسية. وكل مستقبل منهما يكمل الآخر. المستقبل الأول هو ما يُعبَر عنه بكلمة futur. يرى دَرِيدا بأن هذه الكلمة تشير إلى مستقبل يمكن دراسته وتحليله. وهذا مما يمكن التمثيل له في سياق التنمية المستدامة بتحيين سياسات المؤسسات والحكومات من أجل مراعاة المنظومة البيئية (écosystème) في مشاريعنا، حتى تستجيب لإكراهات المناخ في المستقبل. في المقابل، فإن كلمة avenir، وهي أيضا تترجم إلى «مستقبل» في الفرنسية - تعني حسب دريدا - القادم الذي لا نعلمه، وهو ما ليس في يد الإنسان التحكم فيه ولا برمجته، ولا حتى توقعه.
حتى يزداد الأمر وضوحا، أضرب مثالا عن تطبيقات هذا التفصيل الدَريدي. وفق كثير من آليات التعليم في المناهج الحديثة، فإن تعليم التلاميذ مفاهيمَ السلم يعني أن تُقنِع المؤسسات التعليمية التلاميذ بأن السلم وسيلة نبيلة تثمر شعورا بالطمأنينة الاجتماعية، والاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي، وغير ذلك من مآلات السلم المستقبلية. التربية، في المقابل، تعني نقل حالة من الوعي المتكامل، الحسي والروحي، ناشئة عن علاقة متسامية ومنتظمة بين المربي والتلميذ، تنتهي إلى حب السلم لذاته كقيمة مطلقة وغاية عليا غير قابلة للتجزئة؛ أيْ قيمة لا نحبها لمجرد ما قام بها من الأسباب والأعراض والفوائد، بل لذاتها. وهذا يقودني إلى النقطة الرابعة.
السلم المستدام بين أنت السلام ومنك السـلام
التعليم في السياق نفسه، قد يقنعنا بضرورة السلم لأنه عامل منتج في الحاضر والمستقبل، لكن التربية هي ما يضمن عدم انحراف تلك القناعات، وعدم تشوه تلك الإنتاجات في وقت من الأوقات، لأن التربية والتعليم معا هما الأمر الذي يقدم الشبابَ إلى عالم متكامل لا ينفصل فيه المستقبل المادي عن المستقبل الروحي للإنسان. فيكون إنسان المستقبل متعلقا ومتشبعا بالقيمة الأخلاقية الصرفة، وفاعلا في الكون باعتبار تصاريفها. وهذا يذكرني – وإنْ مِن بعيد - قولَ رابعة العدوية:
أحبك حُبين حبّ الهوى
وحبا لأنك أهلٌ لذاك
فقولها «وحبا لأنك أهلٌ لذاك» مقتبس من الوِرد المعروف أدبار الصلوات المكتوبات «أنت السلام.»، وقولها «أحبك حبين حبَ الهوى» مقتبس مِن «ومنك السلام.» فهي تحب السلام لذاته ولأجل ما ينالها منه. إنه من الضروري أن يتحقق السِلم المستدام المراد تقديمه للشباب بالمعنيين معا، فنحب السلم لذاته ولما يثمره من الإنجازات، ولا يجوز الفصل بين هذين المستويين، وإلا قدمنا للشباب سِلما ناقصا، وليد ‹أزمة تربوية› على عبارة حنة آرندت، وكنا كمن يجهزهم للمستقبل من غير غايات ولا وسائل، أو كمن يدعوهم إلى أوركسترا من غير آلات موسيقية!
والشيء بالشيء يذكر، فقد كتب صديق غربي قصيدة باللغة الإسبانية فور عودته من زيارة سياحية إلى دولة عربية. تعبر القصيدة عن انبهار الشاب بحضور متوازن وشمولي للسلم، تجسد عنده في هدوء الناس، وتسامحهم وابتسامتهم رغم قسوة ظروف الحياة، ووقوفهم فرادى وجماعات لأداء الصلاة هنا وهناك. فكتب بعفوية ودقة يصف تلك المشاهد اليومية التي مازال جمهور الناس في العالم الإسلامي ينشأ عليها، ليقول في آخر بيت من القصيدة:
Ala es el unico Dios *** Mahoma su ultimo profeta
هذا البيت هو شهادة الدخول في الإسلام؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله، دون أن يعرف الشاب ذلك. والعجيب هو أنه لحّن قصيدته على مقام شرقي، هو مقامُ الحجاز، دون أن يعلم شيئا عن المقامات الشرقية، وهو يردد تلك الأبيات في كل مرة تعبيرا عن الرضى النفسي الذي اختبره في مجتمع يعمه السلم بشكل متوازن، كما فسر لي بنفسه.
خــاتمــــــة
أعتقد بأن دَريدا في تفريقه بين المستقبلين، يشير إلى عامل الإيمان أو الغيب، وأنه سيكون عاملا حاسما في رحلة الإنسان في الحياة. وبالتالي، فإنني أجد علاقة خفية بين طرح حنة آردنت وجاك دريدا، وهو ما يمكن تلخيصه في نتيجة هذا البحث بالقول:
إن تعليم الشباب مفاهيم السلم دون تربية قد يحقق نتائج باهرة في المستقبل على مستوى علاقة وانخراط الشباب في ثقافة العيش المشترك بين الإنسان والإنسان من جهة، والإنسان والكون من جهة أخرى. لكن ضعف التربية سيزيد من التشويش على رؤية الإنسان للمستقبل البعيد حسب تفصيل دريدا السابق، وهذا اختلال مفاهيمي قد تعقبه اختلالات أخلاقية جسيمة.
مصادر البحث:
Hannah Arendt, “The Crisis in Education”
https://thi.ucsc.edu/wp-content/uploads/2016/09/Arendt-Crisis_In_Education-1954.pdf
Excerpt from «Derrida», a 2002 American documentary film directed by Kirby Dick and Amy Ziering Kofman about the French philosopher Jacques Derrida.
https://youtu.be/VjLQt0uC CfM?si=AxfcheYyEQNkxGkJV jLQt0uCCfM?si =AxfcheYyEQNk xGkJ