آخر تحديث :الأحد-09 مارس 2025-07:58ص

مجلة جرهم


الخلــــوة مــع الـــذات.. ضرورة حياة وأُنسٌ للنفوس

الخلــــوة مــع الـــذات.. ضرورة حياة وأُنسٌ للنفوس

الخميس - 23 يناير 2025 - 10:44 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ فارس عثمان طالب علم شرعي

مع تزاحم الحياة، وضوضاء العيش، ونهيق الحضارة، وتلبد أجواء الهدوء والراحة بغيوم الإزعاج والنكد؛ أمطرت النفوس أخلاقًا سيئة، وتَصرفات لا مسؤولة، وأصبحت خصوصية الإنسان مبتذلة، ومعرفته في حق نفسه من الإصلاح مغيبة ومهملة، وأصبح الإنسان بمشاعره وأحاسيسه ورقة مفتوحة، يقرؤها علياء الناس والسفل، فيضيفون إليها ما شاؤوا، ويغيبون عنها ما شاؤوا، فأين حق النفس من الإصلاح، والهدوء، والمحاسبة، والتأمل، والبصيرة، ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾[ سورة الذاريات: 21]، يقول الدكتور مصطفى محمود: اللحظة الصادقة، هي لحظة الخلوة مع النفس، حينما يبدأ ذلك الحديث السري، ذلك الحوار الداخلي، تلك المكالمة الانفرادية؛ حيث يصغي الواحد إلى نفسه دون أن يخشى أذنًا أخرى، تتلصص على الخط.، ذلك الإفضاء، و الإفشاء، و الاعتراف، والطرح الصريح، من الأعماق إلى سطح الوعي في محاولة مخلصة للفهم، وهي لحظة من أثمن اللحظات؛ إن الحياة تتوقف في تلك اللحظة، لتبوح بحكمتها، والزمن يتوقف، ليعطي ذلك الشعور المديد بالحضور، حيث نحن في حضرة الحق، وحيث لا يجوز الكذب و الخداع و التزييف، ويقول- رحمه الله: "الخلوة مع النفس شيء ضروري ومقدس، بالنسبة لإنسان العصر الضائع في متاهات الكذب والتزييف، وهي بالنسبة له طوق النجاة، وقارب الإنقاذ"؛ فاعتزل لتعتدل، واخلُ لتعلُ، ولابد في دوامةِ هذه الحياةِ، أن يكونَ للإنسانِ أوقاتٌ يخلو بها مع اللهِ -تعالى-، ينظرُ فيها إلى خُطواتِه، ويُعيدُ فيها حساباتِه، كما أمرَنا -سُبحانَه- بقولِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18]،
للوصول إلى منزلة الإحسان
هذه الخلوةُ مع اللهِ، هي أُنسُ المُتَّقينَ، وربيعُ المؤمنينَ، يَخلو العبدُ بربِّه -تعالى- في مُناجاةٍ ودُعاءٍ، في لحظاتِ صِدقٍ وصفاءٍ، يترقى الإنسانُ بها من الإسلامِ إلى الإيمانِ، حتى يَصلَ بها العبدُ إلى منزلةِ الإحسانِ، كما قالَ رسولُ اللهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "الإحسانُ أن تَعبدَ اللهَ كأنَّكَ تَراهُ، فإن لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ"، هناكَ تُحطُّ الرِّحالُ وتُناخُ المطايا، هناكَ يرى العبدُ واسعَ الجودِ وجزيلَ العطايا.
يا من مَددتُم إلى الرَّحمنِ أيديكُم
لقد وقفتُم بمن لا يَغلقُ البابا
ستَبلغونَ أمانيكُم، بقُدرتهِ
هذا هو الله، من ناداهُ ما خابا
نحتاجُ أن نَخرجَ قليلا عن صَخبِ اللِّقاءاتِ، وعن كَثرةِ الاجتماعاتِ، نحتاجُ أن نبتعدَ قليلًا عن مُخالطةِ الأصحابِ، وننعزلَ ساعةً عن الأهلِ والأحبابِ، لنخلوَ مع قراءةِ الأذكارِ وتلاوةِ آياتِ الكتابِ، قالَ مسلمُ بنُ يَسارٍ -رحمَه اللهُ-: "ما تَلذَّذَ المُتلذِّذونَ بمثلِ الخلوةِ بمناجاةِ اللهِ -عزَّ وجَلَّ-"
بِكَ، لا بغيرِكَ تَفخرُ الأبيات
وتتيهُ في أوزانِها الكلماتُ
والرَّوحُ إن ذَكرتْكَ في خَلواتِها
طَابتْ بطيبِ حَديثِكَ الخَلواتُ
سنة الأنبياء وشأن الصالحـين:
نحتاجُ أن ننتبِــهَ إلى هذه الأجهزةِ التي أبعدتنا عن الخلوةِ بربِّنا، قد تسمَّرتْ أعينُنا في شاشاتِها، وانشغلتْ أصابعُنا في تقليبِ صفحاتِها، فأصبحنا مُدمنينَ لها، ولا يستطيعُ أحدُنا أن يبتعدَ عنها طرفةَ عينٍ، ولو نسيناها في مكانٍ أو انتهى شحنُها في زمانٍ، لوجدتَ أرواحَنا كالطُّيورِ المحبوسةِ في القفصِ، مُضطربةً ترفرفُ بجناحِها تبحثُ عن مخرجٍ، نلتفتُ يمينًا وشِمالًا نبحثُ عن شاحنٍ، أو أحدٍ نتحدَّثُ معه لنقطعَ الوقتَ، قد أصبحتْ الرَّوحُ والجسدُ أعداءً، فلا نأنسُ بلحظاتِ الصَّفاءِ، فمتى سننتبُه لهذا الدَّاءِ؟!
أُخيَّ أيها الحصيفُ اللبيبُ، تنقدح الأفكار وتتجلى الحقائق، عندما تختمر تحت رداء الخلوة، بعيدًا عن الأضواء والغوغاء: {قُل إنَّما أعظُكم بواحدةٍ أن تقومُوا لِلَّهِ مَثنَىٰ وفُرَادَىٰ ثمَّ تتفكَّرُوا} [سبأ: 46]. وليس بعيدًا عن ظلال هذه الآية، قول ابن عطاء الله السكندري: "ادفن وُجودك في أرض الخمول. فما نَبت ممّا لم يُدفن لا يتمُّ نتاجه". وهذا لا يعنى الهروب من تكاليف الحياة والمجتمع؛ وإنما يعني الذهاب بعيدًا عن الأضواء والمظاهر، كما تذهب البذور وجذورها تحت الأرض، فيَنبت زرعها وثمرها خلافًا للبذور، التي تبقى فوق الأرض عقيمة تحرقها أشعّة الشمس.
في الخلوة تلقَّى المصطفى ﷺ كلمات الوحي الأولى في غار حِراء، بعد أن حُبِّبَ إِلَيهِ الخلاءُ وكانَ يَخلُو بغارِ حرَاءٍ، فقد ورد في صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو في غار حراء يتحنّث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد". وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح حديث عائشة: "أما الخلاء؛ فهو الخلوة، وهي شأن الصالحين وعباد الله العارفين"، والخلوة سُنّة الأنبياء عليهم السلام، وكثير من القدِّيسين. والخلوة تَسبق الوحي والنبوة. ففي الخلوة تلقَّى آدم من ربه كلمات، وفيها جَنّ على إبراهيم اللَّيلُ ورأى ملكوت السماوات والأرض، وفيها تلقَّى موسى الألواح من الله، بعد أربعين ليلة قضاها في خلوته بعيدًا عن بني إسرائيل. وفي محراب بيت المقدس، كانت مريم عليها السلام تعيش أجمل أيام خلوتها: {كلَّما دخل عليها زكريَّا المحرابَ وَجَدَ عندها رزقًا قال يا مريمُ أنَّىٰ لكِ هذا قالت هو من عند اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرزُقُ من يشاءُ بغيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]،
ثمارّ وفوائد
وعلى مدار التاريخ، هناك العديد من الشخصيات العظيمة في التاريخ الإسلامي، لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه لولا الخلوة، ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر: الإمام ابن خلدون الذي اختلى بنفسه في مغارة غرب الجزائر، وجلس فيها سنوات طوال، وكان نتاج هذه الخلوة أعظم كتاباته وهي مقدمة الإمام ابن خلدون، وشيخ الإسلام ابن تيمية وخلوته في سجن القلعة، وما أخرج للأمة من تراث كشعاع الشمس الذي كان يتخلل كواء سجون الظلمة، وغيرهم رحمهم الله، ويقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ذاكرًا خلوته- وله مع الخلوة وحساب النفس صولات وجولات-:
(وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، ولا يتم ذلك إلا بالخلوة) [“الإحياء” للغزالي ج3/ص66]، وقال الغزالي أيضاً: (وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أُمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها... [“المنقذ من الضلال” للغزالي ص131 – 132]، ويقول ابن الجوزي- رحمه الله-: ما أعرف نفعًا كالعزلة عن الخلق خصوصًا للعالم والزاهد فإنك لا تكاد ترى إلا شامتًا بنكبة أو حسودًا على نعمة ومن يأخذ عليك غلطاتك، فيا لَلعزلة ما ألذها!، سلمت من كدر غيبة، وآفات تصنّع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت. ثم خلا فيها القلب بالفكر لأنه مستلذّ عنه بالمخالطة فدبر أمر دنياه وآخرته فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها، وما رأيت مثل ما يصنع المخالط، لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس وكلامهم فيشتغل بها عما بين يديه، فمثله كمثل رجل يريد سفرًا قد أزف فجالس أقوامًا فشغلوه بالحديث حتى حان الوقت وما تزود، فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل والسلامة من شر المخالطة لكفى.
مقصود العزلة
لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم والزاهد، فإنهما يعلمان مقصود العزلة، أما العالم فيأنس بالعلم والكتابة، والنظر في سير السلف، والتفكير في حوادث الزمان السابق، فإن ترقّى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبث بأذيال محبته تضاعفت لذاته، واشتغل بها عن الأكوان وما فيها، وعمل معه بمقتضى علمه، وكذلك الزاهد يأنس في الخلوة للعبادة عن حب لله ويعتزل ما يؤذيه. فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق، وسلم الخلق من شرورهما.... إلى آخر كلامه في صيد الخاطر، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ومن أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب) [“بستان العارفين ص47]، فالخلوة تلزمنا من حينٍ إلى آخر، لنكون فيها وحدنا مع أنفسنا، لا يشاركنا أحد، ولا يؤثر علينا آخر، لنكون فيها نحن كما نحن، على طبيعتنا وسجيتنا، وبأشكالنا وهيئاتنا، وبوجوهنا المجردة، الخالية من المحسنات والمجملات، فلا زينة ولا خداع، ولا مظاهر زائفة، ولا أقنعة ملفقة. الوحدة والخلوة حاجة، بل هي ضرورة، فهي علامة صحة لا دليل مرض، وهي إشارة إيجابية على الصدق والإدراك، لا علامة على الانطوائية والانعزال، وهي عادةٌ يمارسها العقلاء، ويلجأ إليها الراشدون الواعون، في الوقت الذي يتجنبها ويبتعد عنها اللاهون العابثون، ولا يقدرها المستخفّون الماجنون، وهي عادةٌ يحرص عليها الصادقون، ولكن يخاف منها المخطئون، فلا يلجأ إليها إلا الجادون، والخلوة ضرورة ليسمع الإنسان من نفسه، ويتحاور معها، ويسألها ويحاسبها، ويعاقبها ويوبخها، ويقسو عليها ويعنفها، ويحقق معها أحيانًا لمعرفة الحقيقة منها، والوقوف على أصل الأشياء التي تخفيها المظاهر، وتحول اللباقة والمجاملة والدبلوماسية والحرص على المظاهر والأشكال عن كشفها أو بيانها، فالخلوة تجعلنا لا نخاف من أحد، ولا نضطر إلى التظاهر والادعاء، ولا نخفي حقيقتنا، ولا نتعمد الإتيان بما يخالفنا، وهي تتيح لنا لحظات صدقٍ وصراحة، وفرصة للمكاشفة والوضوح، فلا نخشى ردة فعل الآخرين، ولا نحسب حسابًا لآرائهم، ولا نضطر لمجاملة صديقٍ أو رفيق، ولا لنفاق قويٍ أو كبير.
إعادة شحن طاقتك
إن من فوائد الخلوة مع النفس الشعور بالراحة وإعادة شحن طاقتك، فهي تمنحك الفرصة لتهدئة أعصابك والابتعاد عن ضغوط الحياة، واستعادة الوضوح والتركيز، سواءً كان ذلك بالحصول على حمّام دافئ أو ممارسة التأمل والاستمتاع باللحظات القليلة التي تجلس فيها مع نفسك، ومن فوائدها أيضًا تعزيز الإبداع، فالانفراد بالنفس هو العنصر الحاسم لاستثارة طاقتك الإبداعية، وقيل أيضًا إن الخلوة بالنفس تمنحك الشعور بالحرية من أي قيود، سواءً كان الاهتمام بأبنائك أو تلبية طلبات زوجتك أو إجبار نفسك على التفاعل مع الأشخاص المحيطين، ففي خلوتك تستطيع القيام بالأشياء وفقًا لشروطك أنت، مما يساعدك على تحسين الحالة المزاجية وخلق التوازن الذي يجعلك تشعر بالسيطرة على حياتك، والخلوة فرصة للمراجعة والتوبة، ووسيلة للكفّ والندم، إذ لا أصدق من التوبة التلقائية، ولا أجدى من المحاسبة الذاتية، ولا أثبت من العلاجات النفسية، التي يلجأ إليها الإنسان بنفسه، ومع نفسه، دون دفعٍ من أحدٍ، أو تحريضٍ من آخر، فهي توبةٌ بليلٍ وخفاء، لا يعلم بها غير الله وصاحبها، ما يجعلها قوية وصادقة، وفاعلة ودائمة، فلا يتهمها في صدقها أحد، ولا يشكك في جديتها آخر.
في نهاية المطاف، ليست العزلة غاية في حدِّ ذاتها؛ وإنما هي محطة يعود فيها الإنسان إلى نفسه، ليتأمل مسيرته بعيدًا عن ضوضاء المجتمع. فهي هنا أشبَهُ بواحات الصحراء التي يقصدها المسافر، لطلب الزاد واستجماع طاقاته، ثم مواصلة العودة والارتحال إلى أهله وبلاده. فالعزلة المطلوبة ليست انعزالًا مطلقًا عن المجتمع، لأنه في نهاية المطاف "لا يَجبُ أَن يَكُونَ الإِنسانُ وَحده"، فحاول دائمًا أن تأخذ موعدًا مع نفسك وتختلي بها، ولا تنسَ: أن أجمل خلوة وأفضلها، الخلوة مع الله والناس نيام، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)، وإن المؤمن- والله- ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته، يستقصرها في كل فعل فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قدمًا لا يعاتب نفسه، ولا يكون العبد تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة للشريك من شريكه،
فاقبلْ على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ ■