آخر تحديث :الأحد-09 مارس 2025-07:58ص

مجلة جرهم


ســــــــــــــــــــــــــــــــورة الشــــــــــــــــــــــــــــــرح.. تـأمــــــلات ومقـاصـــــــد تربـويـــــة

ســــــــــــــــــــــــــــــــورة الشــــــــــــــــــــــــــــــرح..  تـأمــــــلات ومقـاصـــــــد تربـويـــــة

الثلاثاء - 07 يناير 2025 - 07:43 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ محمد أحمد العامري

استهـــلال
من السور المكية التي تبعث على الأمل وتصوغ مستقبلاً مشرقًا ومشرّفًا للإنسان مهما تكالبت حوله الكآبات أو العقبات أو أي منغصات تقوده إلى الضيق والهم، هذه السورة -وهي تصوغ غدا جيدًا وجديدًا للإنسان- هي تخاطب النفوس حتى لا يصيبها اليأس فتمثل لها وقاية، وتخاطب النفوس المصابة فتمثل لها علاجا، ولذلك تسمى هذه السورة: سورة الانشراح، ويسميها البعض "سورة الشرح"، ويسميها آخرون "ألم نشرح"، وهي "ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك"، سورة مكية نزلت في بداية الدعوة وهذا له من الدلالة والهداية للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتقوى بصدرٍ منشرح بالطمأنينة ليواجه كل ما يقف أمام دعوته ويعارض طريقه وكأن السورة تقول بأن النفوس غير المنشرحة، بل والمكتئبة وغير المستقرة لا تستطيع أن تواجه الواقع الذي حولها ولا أن تغير فيه، بل هي من تتغير به وكأنها ورقة تتلاعب بها الرياح، خلافا للجبال والصخور القوية التي هي من تغير مجرى الرياح.
انشراح الصدر
كيف لي أن أطلب من أمة بشكل عام ومن شبابها بشكل خاص وهم مصابون بالقلق والاكتئاب واليأس والإحباط بأن يغيروا الواقع الذي حولهم؟!، أو أن يُحدثوا نهضةً ومجدًا وهذا حالهم؟!، إنه أمر غير طبيعي. ولذلك لمن أراد أن يغير في المستقبل يجب أن يهيء أسباب المواجهة والتغيير وبدايتها الانشراح: انشراح الصدر، وهو أكبر مسببات الهداية يقول تعالى: { فَمَن یُرِدِ ٱللَّهُ أَن یَهدِیَهُ یَشرَح صَدرَهُ لِلإِسلاٰمِ وَمَن یُرِد أَن یُضِلَّهُ یَجعَل صَدرَهُ ضَیِّقًا حَرَجا كَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی ٱلسَّمَاءِ }[سُورَةُ الأَنعَامِ: 125]، ولذا جاءت هذه السورة متممة لما قبلها من سورة الضحى، يقال أنه مافصل بينهما إلا البسملة رسمًا وإن كانتا تتحدان في الموضوع مقصدا؛ ففي الضحى يمتن الله على نبيه بقوله: "ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالًّا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى"، أمورٌ تتعلق بجوانب حياتية مادية في أغلبها بينما هنا في سورة الشرح يواصل ربنا سبحانه ذلك السؤال للإقرار بقوله: { أَلَم نَشرَح لَكَ صَدرَكَ (1) وَوَضَعنَا عَنكَ وِزركَ (2) ٱلَّذِی أَنقَضَ ظَهرَكَ (3)[سُورَةُ الشَّرحِ: 3-11]، وهنا يتعلق الأمر بالأمور النفسية والروحية وذلك إتماما لأدوات التغيير الإيجابي في الأمة، ولذلك يعتبر انشراح الصدر سبب أساس في تغيير الواقع الشخصي والعام، ولذا موسى عندما هيئه الله للمهمة الكبرى وهي: دعوة فرعون وإقامة العدل ورفع الظلم عن الناس وانتشالهم من طاعة فرعون واستخفافه بهم، ماذا قال؟، لقد طلب من ربه كما ورد في سورة طه قال: (رب اشرح لي صدري) إبتداء، ثم تأتي بعد ذلك بقية المقومات التي رآها موسى ضرورية للقيام بهذه المهمة كما وردت في الآيات: { وَیَسِّر لِی أَمرِی (26) وَٱحلُل عُقدَة مِّن لِّسَانِی (27) یَفقَهُوا قَولِی (28) وَٱجعَل لِّی وَزِیرا مِّن أَهلِی (29) }[سُورَةُ طه: 26-29]، فبغير انشراح الصدر لايمكن أن أحل مشاكلي وأنا في حالة من الثوران والغضب والكآبة والقلق والخوف.
لقد جاء الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام هنا سؤالاً بمعنى الإثبات؛ ألم نشرح لك صدرك: أي قد شرحنا لك صدرك لعظم رسالتك ومهمتك، وهذا يأتي في مقام لفت الإنتباه أيضا، ألم أفعل لك كذا، ألم نقدم لك كذا، ألم أعطك كذا يا فلان؟، وهكذا جاء السؤال لإثبات هذه النعمة على نبيه وإقرارها.
من هذا المنطق والمنطلق يمكنني اعتبار حقيقة أن: "النفوس المأزومة والضيقة لا تستطيع أن تقدم حلا لمشكلة وأزمة"، وفي هذا لفتة ملهمة ومهمة، وهي: خطورة فقدان انشراح الصدر، فلو فقدت انشراح الصدر يا محمد كيف يمكن لك أن تواجه هذه الظروف التي حولك؟، نحن شرحنا لك صدرك، وفي هذا تذكير للنبي عليه الصلاة والسلام، فقد يكون المرء أحيانا في نعمة لا يدركها أو لا يشعر بها، وقد يعيش بصحته أمدًا بعيدًا وهو لا يعلم قيمة الفضل الذي هو فيه، انظروا عندما فقدنا الأمن في الأوطان، لو جاء أحدهم قبل فترة وقال احمدوا الله على نعمة الأمن كنا سنتجهم عليه، وهكذا لا يدرك الإنسان قيمة ما هو فيه من الخير والنعم إلا عندما تتسرب منه كلها أو بعضها، قال الله لأهل مكة الذين كانوا يعيشون في أمن واستقرار بينما يتخطف الناس من حولهم:
{ فَلیَعبُدُوا رَبَّ هَذا ٱلبَیتِ (3) ٱلَّذِی أَطعَمَهُم مِّن جُوع وَءَامَنَهُم مِّن خَوفِ (4) }[سُورَةُ قُرَيشٍ: 3-4]، وهكذا إنما الشكر ضرورة لاستمرار النعم وزيادتها كما جاء في قوله تعالى: { وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَىِٕن شَكَرتُم لَأَزِیدَنَّكُم وَلَىِٕن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِی لَشَدِید[سُورَةُ إِبرَاهِيمَ: 7].
من معاني الشرح
ومن معاني الشرح أو الانشراح الوارد في السورة: الرضا، نعم ذلك الرضا الذي به أستطيع أن أعيش مع أقدار الله، والرضا بالمصائب التي يقدرها الله، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه وحسنه الترمذي: إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"، والرضا من الأخلاق الحميدة التي يتحلى بها المؤمن وهي صفة تجلب له الهدوء والتوازن النفسي، والقدرة على مكابدة الحياة والعيش فيها بأحسن ما يمكنه ذلك، فيكون فعّالاً نتيجة لتوازنه الداخلي وتسليمه لمجريات القدر، مع احتفاظه بعزيمته وإصراره وهمته.
ويأتي الانشراح أحيانا بمعنى السكينة، إذ أنه أمام الرضا وأمام السكينة يهون كل شيء من المنغصات والأقدار والأكدار، ولذلك يقول الله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في كبد"، وعندما يكسبك الله الرضا تستطيع أن تواجه الحياة بأسرها، وضعف الانشراح في القلوب أو نقصانه يعني ضعف العطاء والتضحية والعمل، وركزوا على هذا المعنى عندما يضعف الانشراح في الصدر، يقل العطاء والعكس بالعكس، ومع السكينة يزداد الإيمان وتعلو الهمة وتتقوى النفوس وما أكرم الله حين قال في سورة الفتح: (هو الذي أنزل السكينة في قُلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليمًا حكيمًا)، وقد كانت السكينة نتيجة لرضى الله عن المؤمنين وفي ذلك يقول الله في الآية "18" من نفس السورة عن المؤمنين: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبًا).
نتائج الانشراح
إن الصدر إذا انشرح والنفس إذا رضيت والقلب حين تغشاه السكينة تتبدل طاقتك إلى الايجاب والعطاء وتتقوى انطلاقتك نحو النجاح والتفوق ويلازمك توفيق الله وتسديده، فتجد نفسك تبذل للناس، وتعمل الخير وتنتصر للحق وتدعو إلى الله على بصيرة، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان من أجود الناس وأكرمهم وألينهم وإنه لعلى خلق عظيم، وقال الله له: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) سورة آل عِمران: 159]، وبذلك بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده.
وليست القضية قاصرة على أن الله فتح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ثم غسل قلبه ثم أخذ من قلبه حظ الشيطان، إنما ذلك جزء منه.
هنا الخطاب للأمة بأسرها وذلك أن من شرح الله صدره وأعطاه وامتنّ عليه بهذا فهو في خير عظيم جدًا، ونجد من النتائج أيضا أن الله تعالى ربط الهداية بانشراح الصدر واشترط على من يريد الهداية بأن يشرح صدره فقال في الآية 125 من سورة الأنعام: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيِّقًا حرجا"، وهكذا تعتبر الهداية أهم ثمار انشراح الصدر ونتائجها، بل ومن هداية الله لمن يشرح صدره أنه يجعله على نور منه يؤكد ذلك بقوله: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه) سورة الزمر: 22، ذلك أن انشراح الصدر لا يقتصر على تجاوز منغصات الحياة فقط وإنما قوة خفية يزود الله بها عباده ويمنحهم فضلها لتعينهم على أمور دنياهم وتزيدهم هداية ونورا في أمور دينهم، وهكذا عندما يضعف الانشراح في الصدر يضعف العطاء وتضعف التضحية ويضعف العمل ويتلاشى الأمل.
إن انشراح الصدر وراحة البال لا تكون -غالبا- بالمال، ولا بالمنصب ولا بالولد، رغم أن ذلك فضل من الله إذا ما شُكر جلب لك السعادة، وأحيانا إنما يكون فيه البلاء والابتلاء وضيق الصدر ونكد العيش، وكم من هؤلاء الذين يمتلكون الأموال غير سعداء إلا من رحم الله.
قد يكون انشراح الصدر بالعلم الذي يقودك إلى الله، فالعلم يقودك إلى اﻹيمان واﻹيمان يقودك إلى الرضا والرضا من معاني الانشراح، ولذلك الواقع الذي يحدثه انشراح الصدر واقع عظيم، والواقع السيئ لا يتغير إلا بنفوس منشرحة قوية وليس بنفوس قلقة مرتبكة وغير متزنة.
نحن بحاجة حقيقية إلى نفوس منشرحة مطمئنة لتغيير واقعنا، وما سر واقعنا التعيس إلا صدى وآثار واضحة لأناس مريضة ومأزومة وأنفس ضيقة ومريضة ومنهزمة.
ووضعنا عنك وزرك
من دواعي الانشراح وأسبابه تكفير الذنوب وغفران الخطايا والأوزار، وقد يكون أول سبب قد ينشرح به الصدر الاستغفار، فالمعاصي تجلب الضيق والاستغفار يجلب الراحة والرزق والسعة، وإذا ما كبلتك الذنوب والمعاصي كيف يكون لك أن تكون منشرح الصدر؟، وقد جاءت الآية الثانية بعد قوله ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك؛ أي أسقطنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك وأقلق بالك، فإذا أسقط الله عنا آثامنا انشرحت صدورنا.
ماذا بعد؟
ثم قال الله عز وجل: ورفعنا لك ذكرك، فالصيت الحسن والذكر الطيب من أسباب انشراح الصدر، فالإنسان بصيته الحسن يشعر بالرضا والانشراح، حيث يؤثر كلام الناس السيء على صاحبه فيسبب الضيق، إذ يقول الله تعالى: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين(98) سورة الحجر]، فالنفس تأبى الصيت السيء ويرفض الإنسان ذلك حتى ولو كان كذلك، فإذا كان الإنسان يرتاح لسماع الكلام الطيب والذكر الحسن عنه فإن الله سبحانه وتعالى جعل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مقرونا بذكره فهل من رفعةِ ذكرٍ أكثر من رفعة ذكره عليه الصلاة والسلام.
ولا يتأتى الصيت الحسن من الغارق في المعاصي وممن كبلته الذنوب، لذلك قلنا أنه إذا انشرح الصدر تأتّى للإنسان أن يبدع وأن يصلح في مجتمعه ويقبله الناس ويذكرونه بالحسنى والطيب.
قد يكون العسر والفقر والشدة أحيانا من أسباب الضيق والقلق وكأن الله يقول لنبيه بما أننا شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك ورفعنا لك ذكرك وكلها متلازمة متكاملة ولكي نزيل عنك كافة أسباب الضيق وحتى تطمئن وتنشرح ثق يا محمد: إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، وباليسر يكون انشراح الصدر ومع انشراح الصدر أيضا يأتي اليسر، ذلك أنه مهما أحاط باﻹنسان العسر في حياته سينجلي بانشراح الصدر إن شاء الله.
ختاما
لا تظن أخي المسلم أن العسر الذي يحيط بك من كل جانب أن الله لم ينزل معه يسرا، لا بل لقد أنزل معه -وليس بعده- يُسرين، وربما يمنع الله عنك شيء ليمنحك ما هو خير منه، وتشتد عليك المآسي من حولك لكي يختارك الله لشيء آخر وأعظم وفيه خير لاتعلمه، فإذا اشتدت عليك الجأ إلى الله واقرع بابه، وإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب، ذلك أن من أعظم الانشراح اﻹقبال على الله تعالى، فأقبل على الله وتفرغ لعبادته واشكره على انشراح الصدر، اشكر الله على إسقاط الوزر، اشكر الله جل وعلا على حسن الذكر، وإذا نصبت إلى ربك اجتهد في الدعاء وارغب إليه وحده، ولا تشكو إلى غيره فالشكوى لغيره مذلة، إرفع يديك إليه.. إرغب إليه ولا ترغب عنه إلى غيره.
أسألُ الله جل وعلا أن يفرجها عنا وأن يغفر لنا، وأن يتقبل منا ومنكم صالح اﻷعمال، وأن يشرح صدورنا ويغفر ذنوبنا وأن يفرج همومنا وهمومكم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين■