آخر تحديث :الأحد-09 مارس 2025-07:58ص

مجلة جرهم


مراكز الأبحاث والدراسات.. الأدوار والأهـمـيــــــة

مراكز الأبحاث والدراسات.. الأدوار والأهـمـيــــــة

الأحد - 29 ديسمبر 2024 - 06:30 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ـ نايف الوصابي

في عصر المعلومات، والثورة التكنولوجية، وما أحدثته من تحولات في الحياة الإنسانية، ازدادت مراكز الأبحاث والدراسات -أو ما يسمى بـ «خزانات التفكير» - في العالم، وصارت مبالغ الإنفاق على الأبحاث العلمية تفوق المليارات، حتى أن هناك دولًا تعد دراساتٍ وأبحاثًا، ترسم عليها سياساتها الاقتصادية والسياسية لسنوات قادمة، وتواكب العالم في التطور ولعل هذا سبب ازدهار الدول المتقدمة اليوم.
جاء ظهور المراكز البحثية بشكل ملموس، بعد انتشار الثورة الصناعية في أوروبا، ومن ثم انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وبقية دول العالم؛ وتزايدت حتى وصل عددها على المستوى العالمي إلى (4500) مركز بحث؛ تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية نحو: (2000) مركز منها، فيما ينتشر العدد المتبقي في مختلف دول العالم. حيث مُنحت مراكز الأبحاث اهتمامًا واسعَ المدى والنطاق وبشكل كبير في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وأصبح لها دور هام في قيادة السياسات العالمية مؤخرًا، وصارت أداةً رئيسيةً لإنتاج العديد من المشاريع الإستراتيجية الفعالة، كما أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المشهد السياسي التنموي في العديد من البلدان المتقدمة، وتشكل المراكز البحثية معلمًا بارزًا ونموذجًا رائدًا للحركة الثقافية والفكرية، لأي بلد على اختلاف هويته وتعدد ثقافاته؛ وفي الآونة الأخيرة تجاوزت بعض المراكز البحثية حول العالم عملية المقاربات النظرية، وتزويد صناع القرار بالمعلومات، والبحوث، والتحليلات المختلفة، إلى أن أصبحت ذات دور ملموس في عملية صنع القرار ذاته، لما تقدمه من إبداعات ودراسات في عديد الجوانب الإنسانية والتكنولوجية، وتلك المرتبطة بالتقدم في المجالات الحيوية والحياتية والعلمية المختلفة، وهو الأمر الذي عزز لديها النفوذ مع تقدم المعرفة، والخبرة العلمية في مختلف دول العالم.
لقد أصبح الاهتمام بمراكز الأبحاث والدراسات ضرورة هامة وحيوية في عالمنا المعاصر، حيث يتطلب من الجميع القيام بجهد نوعي تجاهها في سبيل تأسيس بنية تحتية وطنية، وتكوين كوادر متخصصة لهذه المراكز والمعاهد البحثية والإبداعية، ومدها بالمساعدات الممكنة، والتفهم لأهمية دورها في بحث وتفسير العديد من المشكلات التي تواجه المجتمع، وتخرجه من الجمود والتقيد بالخرافات، إلى آفاق التطور والنهضة والرقي.
منابع للإنتاج المعرفي:
تعد مراكز الدراسات والبحوث العلمية أحد المنجزات الحضارية التي يشهدها عالمنا المعاصر، والتي جاءت بها الثورة العلمية وما أحدثته من تحولات عميقة في التاريخ الإنساني؛ لذا فإن مراكز الدراسات والبحوث، هي عملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمعات الحضارية، وهي المختبرات العلمية المعالجة لقضايا المجتمعات، إذ تعتبر منابع للإنتاج المعرفي والثقافي، وتعكس اهتمام المجتمعات بالعلم والمعرفة، واستشراف آفاق المستقبل، وفق المنظور العلمي في أبعاده المختلفة، والهادفة إلى تأسيس الأطر والأوعية التي تحفظ المنجزات العلمية والمعرفية التي تأتي بها ثمار العلم، والساعية إلى خدمة القضايا الإنسانية؛ وترتبط بالعديد من الجوانب النظرية، والتطبيقية، والعلمية، والاقتصادية، والتكنولوجية، وغيرها، وتهدف إلى تعميق الوعي الاجتماعي بها، باعتبارها مدخلًا لتنمية الثقافة، وتأصيل المعرفة العلمية الموضوعية القائمة، ويعتبر البحث العلمي من أهم المعايير المستخدمة لقياس مدى تطور الدول والحكومات، بل ومن أهم المؤشرات المعتمدة في تقييم أداء منظومة البحث العلمي، هي عدد الأبحاث المنشورة في أوعية نشر مصنفة دوليًا إلى جانب نسبة الإنفاق على البحث العلمي من الناتج القومي.
بين العالم الغربي والعربي:
أورد الباحث «عماد ميراوي» في مادة له بعنوان «البحث العلمي بعالمنا العربي.. إلى أين؟» نشرها موقع «الجزيرة نت» بتأريخ 15/5/2017، أنه ووفقًا لعدد الأبحاث المنشورة بكل دولة، خلال سنة 2014 تحتلّ المراتب الأولى عربيًا كلًا من السعودية: 17409 بحثًا، تليها مصر: 14800 بحث، ثم تونس: 6228 بحثًا؛ حيث تم نشر قرابة 48826 بحثًا خلال سنة 2012 من طرف جميع الدول العربية، وتعتبر تركيا، وتونس الأكثر إنفاقًا بين الدول الإسلامية والعربية على البحث العلمي، مع العلم أن معدل الإنفاق على البحث العلمي بالدول العربية هو 7 دولارات لكل فرد مقابل 750 دولارًا في دول أخرى! وبخصوص الدول الغربية وإذا أخذنا على سبيل المثال إسبانيا والتي يبلغ عدد سكانها 46.704.314 ساكنًا، فقد تم نشر قرابة 76699 بحثًا، خلال سنة 2012 أي بمعدل 1642 بحثًا لكل مليون ساكن، في حين ما تم نشره في جميع الدول العربية والتي يبلغ عدد سكانها 354.168.510 ساكنًا قرابة 48826 بحثًا فقط أي بمعدل 137 بحثًا لكل مليون ساكن، ما يعني أن معدل الأبحاث المنشورة من طرف إسبانيا يساوي 12 ضعفًا عن معدل الأبحاث المنشورة بالعالم العربي.
ويشير الباحث عبد القادر محمد عبد القادر، في مادة له نشرتها مجلة «آراء حول الخليج» في عددها 139 الصادر في العام 2019م، إلى أن واقع البحث العلمي في الوطن العربي يعاني من أزمة كبيرة في كل الجوانب المتعلقة به، مقارنة مع الدول المتقدمة الأخرى، وتتحدد معالم تلك الأزمة في عدد من الأمور كالتالي:
حالة الفقر العامة في أغلب المجتمعات العربية التي صار معظم همها هو التفكير بلقمة العيش فقط، افتقار الدول العربية عمومًا إلى سياسة علمية وتكنولوجية محددة المعالم والأهداف والوسائل، كما أنها ليس لديها ما يسمى بصناعة المعلومات، ويندر فيها وجود شبكات للمعلومات وأجهزة للتنسيق بين المؤسسات والمراكز البحثية، وليست هناك صناديق متخصصة بتمويل الأبحاث والتطوير، وعلى الرغم من الثروة المادية التي تتمتع بها الدول العربية، فإنها تفتقر إلى قاعدة متينة في مجال العلوم والتكنولوجيا، والدراسات البحثية، إلى جانب ضعف إنفاق الدول العربية على البحث العلمي، مقارنة مع ما ينفقه العالم على هذه الجوانب في مختلف مجالات التطوير الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، والعسكري، والتنموي، والصحي، وغيرها، حيث يقدر الإنفاق على البحث العلمي على مستوى العالم سنويا 536 مليار دولار، ويقدر حجم إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية ما نسبته 75% من الإنفاق العالمي، ثم يتوالى بعد ذلك ترتيب دول العالم المتقدم بما فيها كندا، والصين، والهند، وروسيا، واليابان، وكوريا، وغيرها، أما بقية دول العالم - بما فيها الدول العربية - فلا يتجاوز إنفاقها على البحوث والدراسات أكثر من 116 مليار دولار، وهذا المبلغ ليس للوطن العربي فيه سوى 535 مليونَ دولار، أي ما يساوي( 11 في الألف) لتلك البقية من العالم، ومن معالم أزمة البحث العلمي في الوطن العربي هجرة العقول العربية، واعتماد تمويل البحث العلمي على القطاع الحكومي بنسبة 80% و3% للقطاع الخاص و17% من مصادر أخرى، وغير ذلك من الأسباب التي أدت إلى تأخر البحث العلمي وبالتالي تأخر الدول العربية في علاقة طردية يتأكد من خلالها أن تحقيق التطور في دولة ما يرتبط ارتباطًا مباشرًا بقدرتها على توظيف البحث العلمي في التنمية المستدامة والشاملة وفقًا لرؤى وخطط واضحة، ومن ثم توطين اقتصادات المعرفة، التي تعتبر العمود الفقري للاقتصادات الحديثة، حيث يشير «جمال أمين همام» في مادة بعنوان «البحث العلمي مفتاح التنمية»، تم نشرها في نفس العدد من المجلة المذكورة أن ذلك هو الثابت في كل التجارب التنموية العالمية التي مرت بها الدول المتقدمة، لذلك دقت مؤسسات كبرى وشخصيات مرموقة مؤخرًا ناقوس الخطر لتجاهل الدول العربية للبحث العلمي كأحد أهم أدوات تحقيق التنمية، وحذرت من إهمال مراكز الأبحاث، ونبهت إلى خطورة عدم تطبيق مخرجات البحث العلمي في مختلف مناحي الحياة، رغم أن المنطقة العربية فقيرة أصلًا كمًا وكيفًا للمراكز البحثية، وإن وجدت فهي تكون خارج الاهتمام، مع ضعف إنتاجها من الأساس، فمن حيث الكم يوجد في الدول العربية مجتمعة 580 مركزًا تمثل ما نسبته 7.49% من إجمالي المراكز في العالم التي يبلغ عددها 8162 مركزًا، بل خلت قائمة الدول الخمسة والعشرين التي لديها أكبر عدد من المراكز من الدول العربية في حين حلت إسرائيل في المرتبة الـ 19 على هذه القائمة. وبناء على هذه الصورة القاتمة، جاءت دعوات ملحة من جهات مختلفة تحذر من خطورة إهمال البحث العلمي في الدول العربية، ومن أهم أسباب ضعف هذه النسبة بالدول العربية هو شبه غياب القطاع الخاص في المساهمة بالإنفاق على البحث العلمي في حين تصل نسبة مساهمة القطاع الخاص في تنفيذ البحث العلمي باليابان إلى أكثر من 70% وبالمكسيك إلى حوالي 60%.
ولتطوير منظومة البحث العلمي بالعالم العربي يؤكد الباحث «عماد ميراوي»، في مادته السالفة الذكر: أنه لا بد من مزيد من العناية بالتعليم، وخاصة التعليم الأساسي، عبر زرع روح المبادرة والثقة في نفوس الطلاب منذ الصغر، إلى جانب إيجاد إستراتيجية واضحة بخصوص منظومة البحث العلمي، بالإضافة إلى تشجيع وتحفيز الباحثين والصناعيين للاستثمار في هذا المجال، ومن أجل تفعيل دور البحث العلمي بالجامعات في تنمية المجتمع، فيجب إيجاد خطة لاستقطاب الخريجين والباحثين، وعدم الفصل بين البحث العلمي والأولويات والمشكلات الواقعية بالمجتمع، خاصة في مجالات الطاقة والمياه والزراعة، فبدون البحث العلمي لن نستطيع تجاوز هذه النقائص مستقبلًا. كذلك ولتنمية التواصل بين قطاع البحث العلمي، والمحيط الصناعي، يجب إنشاء مراكز من أجل التنسيق بين مختلف المؤسسات والمنشآت البحثية.
أدوار واهتمامات:
تعددت الإشارات، وكثرت التناولات، والمناقشات حول مواضيع البحث العلمي، ومراكز الدراسات وأهميتها، واهتماماتها، وأدواتها، وأدوارها، في رسم السياسات، وتطوير الاقتصاد، وتشجيع الإبداع وتحريك الجمود الفكري، والثقافي، والاجتماعي، ومواجهة الأزمات، وتحقيق التنمية، والتطوير الشامل للدول والحكومات والأفراد، بل لها الدور الأكبر في طفرة التكنولوجيا، وتجاوز الأرض إلى الفضاء، وخلق التوازنات العسكرية، وتحديد الأقوى في منافسات السيطرة على العالم من مختلف الجوانب والاتجاهات، ذلك إذا ما تم استغلالها بالشكل الأمثل، وإيلاؤها المزيد من الأهمية والاهتمام، واعتبارها الركن الأكبر في البناء والتنمية المستدامة، لأي دولة تسعى إلى حجز مكانها ومكانتها في هذا العالم المترامية أطراف التطورات في مداءاته المختلفة.
خلال عام 2020م، برزت الحاجة العالمية إلى مواجهة التحديات المتعلقة «بجائحة كورونا»، لتعيد الحكومات إلى تفقد ما لديها من دراسات وبحوث علمية، تستطيع بها تقليل المخاطر، واكتشاف الأدوية، وتحديد الأولويات في الحد من انتشار هذا الوباء، وكان أن برزت مراكز بحثية متطورة، في كل من الصين، والولايات المتحدة الأمريكية، اتُخذت بناءً على نصائحها، وقراراتها الاحترازية العديد من الإجراءات حول العالم لمواجهة تلك الجائحة، وفي الجانب الصحي والطبي العديد من الأمثلة التي تتجلى من خلالها التطورات الناتجة عن الدراسات والبحوث العلمية، في شتى الجوانب الصحية، والجراحية، والعلاجية، وغيرها، وتختلف الأدوات والأدوار باختلاف أنواع واهتمامات المراكز البحثية والدعم والأهداف المرسومة لها بين بحوث علمية عملية، وبحوث نظرية، وترتبط بمختلف المجالات الصحية، والتكنولوجية، والعسكرية، والاقتصادية، والأمنية، وأخرى ذات اهتمامات فكرية، وثقافية، واجتماعية... إلخ، ويصنف بعض الباحثين أنواع مراكز الأبحاث إلى:
مراكز الدراسات الإستراتيجية، التي تختص بدراسة وتحليل الأوضاع العامة للدولة ودول الإقليم، عن طريق دراسة البيئة الإستراتيجية السائدة، والخروج باستنتاجات وتوصيات، توضع أمام أصحاب وصانعي القرار لاتخاذ ما يرونه مناسبًا، وهذه المراكز منتشرة في معظم عالمنا العربي ومختلف دول العالم، وقد نجحت في تقديم تقييمات مختلفة عن البيئة السائدة، وهذا ما دفع بعض المفكرين والساسة إلى تسمية هذه المراكز بخزانات التفكير (THINK TANKS).
المراكز البحثية العلمية البحتة، والتي تختص في العلوم والتقنية والطب وتطوير الصناعات الحديثة، وغالبًا ما تستحوذ الدول المتقدمة صناعيًا على جلّ هذه المراكز.
المراكز البحثية الاستشارية، والتي ترتبط بمؤسسات مستقلة، أو شركات، حيث تقدم خدماتها للجمهور مباشرة، ومثال على ذلك المكاتب الاستشارية للمشروعات العمرانية الكبيرة، والتي تحتاج إلى دراسات استشارية وأصحاب خبرة.
مراكز الدراسات والأبحاث الإستراتيجية، التي تتعامل مع الفكر والمستقبل وتحاول فك وتحليل رموز المعضلات التي تواجه الأمة من منظور إستراتيجي، حتى تكون هذه الأمة قادرة أو مستعدة لمواجهة هذا المجهول. ونوعية هذه المراكز في الحقيقة هي التي توجه بقية المراكز البحثية الأخرى المتخصصة في شتى المعارف للتركيز على نوع محدد من البحوث.
خـتــــامًا:
خلاصة الواقع، ونصيحة الباحثين، أنه لابد من التذكير بأن لمراكز البحوث والدراسات إسهامات في غاية الأهمية، وبخاصة أن المعلومات التي تشكل أحد أهم مخرجات عمل هذه المراكز، أضحت من أهم عناصر قوة الدولة، ودخلت كأبرز مقومات التطور العلمي والتكنولوجي في الوقت الراهن، الذي بات يوصف بعصر المعلومات والذكاء الاصطناعي، في ظل انتشار وسائل التطور العلمي الهائل، التي وفرتها وسائل الاتصال السريعة، مما يتطلب من ذوي الشأن في مختلف دول العالم، وبخاصة الدول العربية إيلاء المؤسسات البحثية الاهتمام الذي تستحقه، ومعالجة المعوقات التي تواجهها مع مراعاة خصوصية المجتمعات، ومراحل التطور، ونظرًا لما تعانيه الدول العربية من ضعف شديد فلا بد من إيلاء المراكز البحثية أو ما صار يسمى بـ "خزانات التفكير" اهتمامًا بالغًا، وتطبيق توصياتها عمليًا في حياتنا، وتعزيز الثقة بمخرجاتها، حتى يمكننا مواكبة العالم في رسم السياسات الذكية، التي تجنب الإدارات الأخطاء، وتعمل على النهوض، وتساهم في التنمية المستدامة، والتعامل مع الأزمات ■