آخر تحديث :الخميس-28 نوفمبر 2024-12:24ص

مجلة جرهم


فلسطــــــــــــين.. أسرلــــــــــــة الأرض وتغـيُّرات المواقــف

فلسطــــــــــــين.. أسرلــــــــــــة الأرض وتغـيُّرات المواقــف

الجمعة - 22 نوفمبر 2024 - 07:33 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. لمياء الكندي أكاديمية وباحثة يمنية

ليس من الغريب أن تنشأ فكرة قيام وطن قومي لليهود في الأراضي الفلسطينية متزامنة مع ظهور النظام العالمي الرأسمالي الجديد ؛ الذي بدأ منذ وقت مبكر من تاريخ نشوئه في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وتزايد نفوذه في رسم خارطة مغايرة للعالم تضمن بقاء هذا النظام وترعى مصالحه التي تستوجب زراعة كيان مغاير للثقافة والهوية العربية والإسلامية بأيديولوجيا دينية وسياسية يتم التجييش لها عسكريـًا لفرض هذا الكيان في المنطقة ، ويكون أداة من أدوات القدرة والتحكم في النظام الدولي الجديد والدفاع عن مصالحه مقابل إفشال المشاريع الوطنية والتحررية والذاتية في المنطقة بما يعني تغييب دور الدولة الوطنية المستقلة بامتياز .
خطوات الإعلان :
جاء قرار دعم إسرائيل ليتحول من فكرة وعقيدة دينية أسطورية إلى حقيقة مفروضة سواء تواجهنا معها أو تم قبولها ؛ ومن هذه المساحة أوجد الغرب الآليات والضمانات والسياسات التي أسهمت في قيام دولة إسرائيل بداية من إعلان وعد بلفور سنة 1917م وحتى الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في الرابع عشر من أيار \مايو 1948م، هذا الإعلان الذي تزامن مع إعلان بريطانيا انتهاء انتدابها لفلسطين كي يستكمل اليهود دولتهم التي ساندها المجتمع الدولي آنذاك حيث أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4\3\1949م العضوية الكاملة لإسرائيل في الأمم المتحدة بينما أصبحت الدولة الفلسطينية مشروع نضال وحلم لا يزال ينازع سادة القرار العالمي تحقيقه حتى اليوم.
كما جاء قرار وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن وإعلان الهدنة الشاملة في جميع الأراضي المحتلة في 16\11\1948م ليقرر الوضع الداخلي لفلسطين كونها أرض وشعب بلا دولة ، ويمنح مشروعية بقاء إسرائيل كدولة آمنة يحق لها ضمان كافة أشكال البقاء والاستمرار وآليات الدفاع عنها تكتسب مشروعية أممية، وجاء القرار رقم خمسين الصادر عن مجلس الأمن لسنة 1948م الذي يدعو الحكومات العربية (مصر- شرق الأردن- اليمن- سوريا- السعودية- لبنان) إلى الامتناع عن إرسال مقاتلين للمشاركة في الدفاع عن فلسطين وإلزام هذه الدول بقرار الهدنة لتكون مثل هذه القرارات مشاريع أولية لسلخ القضية الفلسطينية عن محيطها العربي وعزلها ، وهو ما نجح الغرب في تحقيقه طيلة سبعة عقود من الصراع.
الدعم الأمريكي :
وإذا كانت بريطانيا عبر سياستها الاستعمارية وسياسة الانتداب التي فرضتها على شعوب العالم بما فيها الشعب العربي في فلسطين قد أسهمت بشكل مباشر في تأسيس دولة إسرائيل ونشوئها فإن الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية يشكل الضمانة الحقيقية لبقاء إسرائيل والدفاع عنها واستمراريتها؛ فإلى جانب الدعم الأمريكي المباشر للكيان الصهيوني سياسيـًا وعسكريـًا واقتصاديـًا شكل هذا الدعم حائط صدٍّ منيعٍ لكل المشاريع والتقارير الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية ؛ فكان الفيتو الأمريكي هو السلاح المدافع عن بقاء إسرائيل خارج المساءلة القانونية أو الأخلاقية الملزمة ، حيث سجلت جلسات مجلس الأمن الدولي 51 فيتو استخدمتها الحكومات الإمريكية المتعاقبة لوقف تمرير أي مشروع يخص القضية الفلسطينية سواء فيما يتعلق بموضوع السلام أو مشاريع وقف إطلاق النار أو مشاريع الإدانة الخاصة بممارسات وانتهاكات قوات الاحتلال تجاه ملفات عدة كالاستيطان والأسرى والمعتقلين وما يتعلق بالقدس وغيرها ، ففي 20\2\ 2024م ـ وكنتيجة من نتائج الحرب الأخيرة على غزة ـ أفشل الأمريكان مشروع قرار يطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية ويرفض التهجير القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين ، ويدعو إلى إيصال المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع إلى كل مناطق غزة كما يؤكد التزامه برؤية حل الدولتين .. وعلى الرغم من الوضع الإنساني بالغ الضرر الذي وصلت إليه الأوضاع في غزة لترتقي الجرائم الإسرائيلية فيها إلى جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية ؛ هذه الجرائم التي تم توثيقها وإثباتها بالأدلة القطعية ؛ إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال ثابتةً في موقفها بالدفاع عن الجرائم الإسرائيلية رغم النتائج العكسية لدعمها الفاضح لجرائم الكيان الصهيوني وتأتي الاحتجاجات التي شهدتها الجامعات الأمريكية دليل وعي كما هو دليل استياء واحتجاج شعبي على هذا الدعم.
تأثيرات نكسة 1967م
استمرت حالة التضامن العربي وفق المصير المشترك للعرب فيما يخص الاحتلال الإسرائيلي من بداية إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948م وحتى نكسة حزيران يونيو 1967م ؛ فبعد هذا التاريخ تغيرت تقديرات وحسابات السياسات العربية تجاه القضية الفلسطينية وتراجع الدور العربي ليتخلى عن مهمة تحرير فلسطين عسكريـًا.
ففي صباح الخامس من يونيو 1967م وجهت إسرائيل ضربة مباشرة لسلاح الجو العربي في كل من مصر وسوريا والعراق والأردن بهدف تحييد سلاح الجو العربي تمهيدًا لشنّ حربٍ برية واسعة كان من أهم ما نتج عن هذه الحرب أن توسع نطاق الجغرافية العسكرية الصهيونية لتُكملَ احتلالها لجميع الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وغزة) ؛ ويجدر التذكير بأن كل من الضفة الغربية وغزة قبل هزيمة 67م كانت تخضع من الناحية الإدارية لسلطة كل من مصر والأردن وقد أنهى الاحتلال الإسرئيلي ـ باحتلاله الأخير لهذه المناطق ـ الوجود العربي المدافع عنها.
ولم تكتفِ القوات العسكرية الإسرائيلية باحتلالها المباشر لكل الأراضي العربية في فلسطين بل تمددت خارج حدود فلسطين التاريخية البالغ مساحتها حوالي 27 الف كيلو متر مربع بل قامت باحتلال شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية وبذلك أوجدت إسرئيل لنفسها قاعدة دفاعية متقدمة ضد أي هجوم عربي محتمل كما استهدف الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية تمكينها من الاستفادة من الموارد الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية إضافة إلى سيطرتها على القدس الشرقية بما تحمله هذه السيطرة من معاني دينية وروحية ومن قيمة نضالية للعرب والمسلمين.
أسرلة فلسطين :
مكنت هزيمة حزيران يونيو 1967م إسرائيل من إطلاق يدها نحو تثبيت مشاريع الدولة اليهودية وتهويد المدن والهوية والثقافة العربية خاصة بعد خروج ما يزيد من ثلاثمائة ألف فلسطيني نازح إلى مخيمات النزوح في الأردن وغيرها بحثـًا عن الحق في الحياة ، كما انتهجت إسرائيل تغيير البنية الديمغرافية للخارطة السكانية في الأراضي الفلسطينية عبر توسيع نطاق الاستيطان الإسرئيلي الذي أتاح لها اقتطاع مساحات واسعة من الأراضي السكنية والزراعية لصالح الجماعات الصهيونية التي باشرت في اتخاذ التدابير نحو خلق بيئة سكانية واقتصادية هائلة فأنشأت المصانع والمناطق الصناعية فيها إضافة إلى آلاف المستوطنات التي يتم حمايتها أمنيـًا وعسكريـًا بحواجز وجدران الفصل العنصري التي كانت تصادر بها غالبية الأراضي الفلسطينية الخاصة التابعة للمزارعين الفلسطينيين.
سياسة التهجير :
وتأتي سياسة تهجير الفلسطينيين من المدن والقرى الفلسطينية وخاصة المناطق ذات البعد الحضري والتاريخي كالقدس أو ضمن الأراضي المحتلة في عام 1948م ، من أهم الممارسات التي ارتكبتها قوات الاحتلال حيث باشرت تلك السلطات إلى سحب الهويات الفلسطينية للفلسطينيين داخل ما يعرف بالخط الأخضر والقدس؛ وكي تحكم إسرائيل قبضتها على مدينة القدس سارعت إلى اتخاذ العديد من الإجراءات التهويدية ومن ضمنها سحب هويات المقدسيين مستندة إلى سلسلة من القوانين والأنظمة العنصرية ومن بينها قانون العودة 1950م : وهو قانون يفتح الباب على مصراعيه لهجرة اليهود ومنحهم المواطنة الكاملة، وفي المقابل يحرم الفلسطينيين الذين اضطروا إلى النزوح إثر حرب 67م وما قبلها من العودة إلى منازلهم ، وبحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء الصادر في حزيران 2023م فإن وزارة الداخلية الإسرائيلية قد صادرت حوالي 14701 هوية للمقدسيين الأفراد المسجلين ضمن هوية رب أسرة بشكل تلقائي من 1967م وحتى 2017م .
واستكمالاً لسياسة تهويد القدس وأسرلة الأراضي الفلسطينية باشرت سلطات الاحتلال إثر سيطرتها على القدس والضفة وغزة بعد نكسة 1967م بسياسة هدم مباني الفلسطينيين وخاصة في القدس بهدف إحكام السيطرة على المدينة المقدسة وتهويدها ، وصنفت السلطات الإسرائيلة أربعة أنواع من هدم المنازل شملت :
الهدم العسكري : ويعني هدم المنازل على يد قوات الاحتلال بغرض حماية الجنود والمستوطنات .
الهدم العـقــابي : وهي سياسة تمارسها قوات الاحتلال بهدم منازل العائلات الفلسطينية التي يشارك أبناؤها في عمليات عسكرية ضد قواتهم .
الهدم الإداري : وهو الأكثر شيوعًا وينفذ هذا الهدم بذريعة البناء بدون ترخيص .
الهدم القضائي : وهو قرار قضائي يصدر عن المحاكم الإسرائيلية .
القضية واتفاقيات السلام العربية:
لا تقل كارثية النتائج التي أحدثتها هزيمة حزيران 1967م عن نكبة 1948م التي أُعلنت فيها دولة إسرائيل ، حيث نتج عن كل من النكسة والنكبة نتائج خطيرة غيرت في مسار الصراع العربي الإسرائيلي ولعل ما ترتب على نكسة 67م من الننائج أكبر .. كونه أخرج النظام العربي تمامـًا من حالة الدفاع المشترك عن فلسطين، وتم تطويق الدول العربية خاصة مصر والأردن باتفاقيات ترعى مصالح إسرائيل ومصالح مصر والأردن بمعزل عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا إنجاز سياسي وعسكري كبير حققته إسرائيل كون كل بلد عربي بات يدافع ويفاوض عن أراضيه ومشاريعه الخاصة بعيداً عن القضية الأم المسببة لهذا الصراع ؛ حيث تم في مصر عام 1979م توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية "كامب ديفيد" التي منحت لإسرائيل أول اعتراف عربي بسلطتها ودولتها وأُغلقت حدود الاشتباك بين البلدين وفق معايير خاصة ناقشتها هذه الصفقة.
ليأتي اتفاق وادي عربة الموقع بين الأردن وإسرائيل عام 1993م وينهي جميع أشكال التدخل الأردني في نطاق الجغرافية السياسية للأراضي الفلسطينية وخاصة الضفة الغربية ، و يمنح الأردن بعض الحقوق المشتركة التي تقاسمتها مع إسرائيل وفق بنود هذا الاتفاق.
لم يغفل العالم ومعه رعاة الصهيونية العالمية اهتمامهم بحماية إسرائيل ورعايتهم الكاملة لكل المشاريع التي يمكن أن تتسبب في ضمان أمن هذا الكيان وحماية دولته ، لذا استمر الراعي الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في جهوده بترسيخ مبدأ التفاوض لجلب سلام آمن وشامل لإسرائيل في المنطقة ؛ ففي 1991م انطلق مؤتمر مدريد للسلام برعاية أمريكية على أساس مبدأ حل الدولتين (الأرض مقابل السلام)، وهو الاتفاق الذي لم ينتج عنه غير ظهور سلطة فلسطينية منزوعة الصلاحيات الهامة والحساسة تدير أراضٍ كانت ولا زالت ترزح تحت سلطة الاحتلال .
كما اعتمد العرب في 2002م مبادرة قدمتها المملكة العربية السعودية واقترحها الملك عبدالله بن عبدالعزيز وعرفت باسم المبادرة العربية للسلام هدفها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967م ، وعودة اللاجئين ؛ مقابل إقامة علاقات طبيعية بين العرب وإسرائيل على شرط تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من المناطق المحتلة بعد نكسة 1967م بما فيها الجولان والقدس الشرقية ؛ ولم ينتج عن هذا التوجه العربي الهادف إلى إغلاق ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أيُّ نتائج، حيث استمرت القوى الدولية في إهمال القضية الفلسطينية وتشتيت كل الجهود الرامية إلى تحقيق اتفاقية سلام عادل وشامل مستغلة جملة من الأوضاع التي شهدتها المنطقة العربية وبالأخص بعد ما عرف بأحداث الربيع العربي ، إذ ضغطت الولايات المتحدة ومعها إسرائيل على النظام السياسي العربي للقبول بالاعتراف بإسرائيل خارج تفاهمات مدريد وأوسلو ، -والتي تم فيها الاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية والجانب الإسرائيلي بإنهاء الصراع وفق عدد من البنود التي استفاد منها الجانب الإسرائيلي بالشكل الأكبر واستمر في عملية القمع والإجرام والاستيطان - ، وخارج مقررات القمة العربية لعام 2002م ، وكل ما ارتبط بمشروع الأرض مقابل السلام.
لقد اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل إلى محاولة الاعتراف بإسرائيل والسلام معها بدون أرض وبدون مقابل ومن هنا توسعت مشاريع التطبيع العربية لتشمل اعتراف عربي كلي أو جزئي بإسرائيل سواء عبر فتح سفارات وقنصليات إسرائيلية كما حدث في المغرب والإمارات العربية المتحدة، أو عبر مكاتب إسرائيلية تمهد لحالة الاعتراف العربي بإسرائيل كما هو حادث في قطر والبحرين وتونس وعُمان والسودان وغيرها .
لقد أظهر العالم الغربي دعمه المطلق للكيان الصهيوني إثر عملية طوفان الأقصى وكانت ردة الفعل الغربية مبررة وصادمة، في الوقت ذاته .
لقد كشفت عملية السابع من أكتوبر ـ وفق معطيات الأحداث ـ عن هشاشة كبريات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية إلى جانب تعريتها لنظرية إسرائيل الآمنة والصلبة ضد أي اختراق أو هجوم عدائي قد يطالها.
الموقف الغربي من أحداث غزة :
اعتبر الغربيون وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية هجوم السابع من أكتوبر تحدي صريح ومباشر لها لذا باشرت فور الإعلان عن الهجمات بتوجيه حاملات طائراتها إلى المنطقة وفتح جسر جوي غير معلن لنقل آلاف الأطنان من الصواريخ والمواد المتفجرة الأمريكية إلى إسرائيل؛ بل اتجه الرئيس الأمريكي إلى المنطقة كي يباشر منها إدارة الرد الأمريكي على العملية بعد يومين منها مباشرة.
وعلى ذات القدر من الرد الأمريكي جاء الرد الفرنسي والبريطاني والغربي ككل داعمـًا لإسرائيل ويمضي على وتيرة عالية لخلق جبهة إقليمية ودولية موحدة تساند إسرائيل وتدعمها في حربها على غزة مع ضمان عدم توسع الحرب خارج حدود فلسطين .
إسرائيل التي أصيبت في كبريائها وجدت نفسها أمام نظام عالمي يدعمها بقوة ويبدي استعداده للدفاع المشترك عنها .. وجدت نفسها أمام فرصة تاريخية لممارسة أبشع أصناف المجازر الوحشية ، فارتكبت جرائم حرب في غزة وجرائم ضد الإنسانية لكن ذلك التضامن الغربي اللامحدود لإسرائيل ـ مع تزايد الجرائم الصهيونية ـ بدأ يستهلك ذاته ، وبدأت الأصوات الحرة في بقاع كثيرة من العالم تتعالى لإدانة هذه الجرائم؛ لتأخذ هذه الإدانات وحركة الاحتجاجات التي شهدتها كبريات العواصم العالمية وجه آخر استدعى قيام دولة جنوب إفريقيا مدعومة من عدد من الدول برفع قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي.. هذه المحكمة التي باشرت على الفور الأمر بالتحقيق في قيام إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ، وكانت أول الخطوات التي أعلنت عنها المحكمة دعوة إسرائيل باتخاذ تدابير محددة للحد من العنف الممارس ضد الفلسطينيين في غزة ، وهو ما لم تقم به إسرائيل حيث مضت بوتيرة أعلى لاستهداف المدنيين ، وعلى الرغم من رفض إسرائيل كل الإجراءات والدعوات الصادرة من محكمة العدل الدولية إلا أن الموقف الإسرائيلي لم يمنع المحكمة من الاستمرار في مباشرة تحقيقها وتوثيق جرائم الحرب الإسرائيلية التي نتج عنها إعلان المحكمة عن إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالنت ، إضافة إلى ثلاثة من قادة حماس اعتبرتهم المحكمة مسؤولين عن العنف والأحداث الحاصلة في غزة.
مذكرة الاعتقال :
لقد كان للحديث عن مذكرة الاعتقال هذه مؤشرات سياسية وأمنية خطيرة على إسرائيل حتى ولو لم يتم فعليـًا محاسبة قادتها على جرائمهم لكنها تعبّر عن مرحلة جديدة من مراحل الصراع باتت تهدد الكيان الإسرائيلي وتفتح الباب للمساءلة القانونية والدولية لأفعال إسرائيل وجرائمها وهو مالم تعتاده إسرائيل طيلة عقود الصراع.
لقد وجدت إسرائيل نفسها إثر هذه المحاكمة معزولةً أخلاقيـًا وقيميـًا وحتى سياسيـًا أمام قرارات المحكمة ووثائق الإدانة التي جمعتها ؛ كما أن تلك القرارات وجّهت أنظار الرأي العام العالمي وكبريات مؤسساته الإعلامية والصحفية ووكالاتها العالمية لتداول تلك القرارات والوثائق وتبني خطاب يحاول الغرب من خلاله إعادة تقديم نفسه كنموذج ديمقراطي يدافع عن الحقوق والحريات ؛ حيث لم يعد بمقدوره الاستمرار بتزييف الحقائق التي بات لها صوت عالمي تعدى سياسة الأنظمة الغربية التي كانت ولا زالت تعتبر نفسها صاحبة الحق في الدفاع عن إسرائيل ؛ وهو ما دفع هذه الحكومات جديـًا إلى الحديث عن ضرورة إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق حل الدولتين ؛ ورغم الرفض الأمريكي والإسرائيلي لهذا الخيار إلا أنه لم يمنع العديد من الدول من تثبيت قناعتها بضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومنح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة ليأتي قرار كلٍ من سلوفانيا وإسبانيا والنرويج وبولندا التي اعتبرت أن قرار اعترافها بدولة فلسطين غير موجه ضد أي طرف وأنه يتماشى مع القرارات الأممية المشروعة .. هذا الاعتراف الذي عززه موقف الرئيس الصيني الداعم لإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية لحدود عام 1967م ، وهو ذات الموقف الذي تعبر عنه روسيا وتتبناه المجموعة العربية في مجلس الأمن.
تجدر الإشارة إلى أنه في حين جاءت مناقشة دول الاتحاد الأوروبي من خلال أعضائها محذرة إسرائيل من توجه دول الاتحاد إلى فرض عقوبات على إسرائيل إذا لم تمتثل لقرار محكمة العدل الدولية ؛ فقد نشر الموقع التابع لشركة سي إن إن الأمريكية في الخامس من يونيو 2024م خبراً مفاده أن مجلس النواب الأمريكي صوت لصالح تمرير مشروع قانون يفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية ، وجاء مشروع هذا القرار رداً على المحكمة التي تسعى إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ؛ حيث ينص مشروع القانون على فرض عقوبات على الأفراد "المشاركين في أي جهود للتحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو محاكمة أي شخص محمي من قبل الولايات المتحدة وحلفائها"، وتشمل العقوبات حظر المعاملات العقارية الأمريكية وحظر وإلغاء التأشيرات.
ختــــــاماً :
رغم أن قرار المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل أول خطوة تتخذها المحكمة ضد السياسيين الإسرائيليين منذ بدء الصراع العربي الإسرائيلي نتيجة للجرائم غير المسبوقة التي ترتكبها إسرائيل في غزة ؛ إلا أنه نفس السبب الذي أدى إلى التحول في السياسة الأوربية التي لم يعد بمقدورها تجاهل الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية وفق حسابات أخلاقية وقانونية لم تعد دول الاتحاد قادرة على تجاهلها.
وأمام ما رصدناه من تحول في الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية يبرز أمامنا تساؤل حول : هل كان الشعب الفلسطيني يستحقّ كل هذا الكم من التضحية والمعاناة والتجويع والقتل والإبادة الجماعية كي يحصل على استحقاقه المغيب في إقامة دولته؟!!!■