آخر تحديث :الجمعة-29 نوفمبر 2024-07:06م

مجلة جرهم


اليمن.. مسارات الهدنة والسينـاريوهـــات المتوقعــــة

اليمن.. مسارات الهدنة والسينـاريوهـــات المتوقعــــة

السبت - 09 نوفمبر 2024 - 05:19 م بتوقيت عدن

- خاص

استهلال: قبل الحديث عن الهدنة الحالية بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي وانعكاسات ذلك على المشهد في اليمن، وفلسفتها عند الحوثي والسيناريوهات المتوقعة، دعونا بداية نتعرف على مفهوم الهدنة، فمصطلح الهدنة: "تعني الهُدْنة والهِدَانَةُ في معجم "لسان العرب" المصالحة بعد الحرب، وأصل الهُدْنةِ السكون بعد الهَيْج، وربما جعلت للهُدْنة مُدّة معلومة، فإذا انقضت المدة عادوا إلى القتال، ولذلك قيل: هُدْنَة على دَخَنٍ أَي: سكونٌ على غِلّ." ولم يُعرِّف ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 مفهوم الهدنة الإنسانية بشكل واضح، لكن فقهاء القانون الدولي عرفوها بأنها "وقف العمليات الحربية بين طرفي القتال بناء على اتفاق المتحاربين".
وبقدر ما يشير المصطلح إلى غياب إمكانية حلول تفضي إلى توقف نهائي للحرب، فإنه يبقى إجراء يحمل طابعًا سياسيًا إلى جانب صفته العسكرية، وقد يكون مقدمة لعقد صلح بين المتحاربين.
وقد يسأل سائل: كم عدد الاتفاقيات والهُدن التي تم توقيعها مع جماعة الحوثي من قبل الجانب الحكومي الرسمي أو القبائل التي خاض الحوثيون حروبًا وقتالًا ضدها؟، وللحقيقة من خلال التتبع والرصد لتلك الاتفاقيات والهُدن سنجدها أكثر من مائة اتفاقية وهُدنة أبرمتها هذه الجماعة وتعهدت بتنفيذها، لكنها انقلبت عليها كلها؛ ما يعكس طبيعة التعامل مع المواثيق والهدن والاتفاقات دون مراعاة للمبادئ والقوانين والأعراف والقيم..
نمـــــاذج
الحروب الست (2004 - 2009م):
ومثلت الحروب الست التي خاضها الحوثيون ضد الدولة استنزافًا كبيرًا لمقدرات الدولة المختلفة: المالية والعسكرية والبشرية، وفي كل جولة من تلك الحروب سُجِّل ما يربو على تسع اتفاقيات -محلية منها ودولية- وما إن يتم التوافق على هدنة أو اتفاقية، حتى تبدأ جولة أخرى من جولات الحرب من قبل الحوثيين وتقوم بنقضها والتنصل منها جميعًا. وبعيدًا عن تقييم دور الدولة ومسؤوليتها وتعاطيها مع هذه الحروب، إلا أن الجميع كان يدرك أن الحوثي ما يلبث أن يوقع هدنة أو اتفاقية حتى يسارع في نقضها والانقلاب عليها.
أهل دماج ونقض الاتفاق معهم:
دماج قرية تقع في وادٍ جنوب شرق مدينة صعدة بشمال اليمن، وتأتي شهرة هذه البلدة بوجود مركز دار الحديث الذي أسسه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- أحد كبار علماء السلفية باليمن وهو من قبيلة وادعة من هَمْدان، والمعروف عن أهل دماج بُعدهم عن السياسة وعن أي صراعات وتجاذبات حزبية، أو أي استقطابات للأطراف السياسية وتفرغهم للعلم وتحصيله، لكن ذلك لم يشفع لهم، واتجهت نحوهم نيران الحوثي وآلته الحربية، فهاجمهم وشن حربه عليهم رغم الفارق الكبير في العدة والعتاد بينهم وبين أهل دماج الآمنين المسالمين المتفرغين للعلم، فكانت النتيجة المأساوية من القتل والدمار عليهم، ولأن الدولة حينها لم تكن على قدر المسؤولية في القيام بواجباتها في حماية المواطنـين والتصدي لهذا التمرد، فقد شكلت لجنة وساطة رئاسية بين الطرفين، وتم توقيع اتفاق بينهم وبين الحوثيين، يتم بموجبه خروج أهل دماج من المنطقة وتهجيرهم إلى مكان آخر، على أن يتسلم الجيش مواقع أهل دماج وينتشر فيها لتأمينها، وما إن التزم السلفيون بالاتفاق وخرجوا من المنطقة، حتى نقضت جماعة الحوثي بنود الاتفاق، ومنعت انتشار الجيش، ودخلت إلى منازل المواطنين، وفجرت دار الحديث، بل وأعلنت لجنة الوساطة بعد يومين من تنفيذ الاتفاق عن صعوبات تواجه نشر الجيش في دماج، وأوضحت أن الجيش لم يتمكن من التمركز إلا في أماكن قليلة وبأسلحة محدودة، وقد أراد الحوثيون بحربهم على أهل دماج التخلص من سكان هذه المنطقة التي لا تقبل به ولا بأفكاره، ليجعل من صعدة كاملة مغلقة عليه، ليتفرغ بعدها لشن حروبه الأخرى على مناطق اليمن.
اتفاق السلم والشراكة:
وتحت نشوة سيطرة الحوثي على المدن اليمنية صعدة وعمران، ثم الزحف نحو العاصمة صنعاء، والاستيلاء على مؤسسات ومقدرات الدولة؛ جاء اتفاق السلم والشراكة، برعاية الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص "جمال بن عمر" بين الدولة والحوثيين، ورغم أن الاتفاق كتب بلغة الحوثي وهيمنته على العاصمة صنعاء ونشوة الغلبة على الجميع؛ إلا أنه لم يلتزم بأي حرف منه، وانقلب عليه ونقضه قبل أن يجف حبره، بل واتجه نحو بقية المحافظات الشمالية والجنوبية ليستكمل مخططه الانقلابي في الاستيلاء على اليمن.
اتفاق السويد (ستوكهولم) 2018م:
وبعد قيام عاصفة الحزم في إبريل 2015م، للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، استجابة لطلب الحكومة الشرعية، ووصول قوات الجيش اليمني والمقاومة مسنودة من التحالف العربي إلى تخوم مدينة الحديدة، وبعد أن أوشكت على استعادة ميناء الحديدة؛ جاء تدخل المبعوث حينها بمبادرة وهدنة واتفاقية استكهولم، ورضخت جماعة الحوثي وذهبت إليها لتلافي هزيمة ساحقة أوشكت بها، وتم منع الحكومة الشرعية من استعادة الحديدة والميناء، لما يمثل ذلك من ضربة قاصمة لهم، ومع هذه الاتفاقية التي نصت بتسليم الموانئ الثلاثة: في الحديدة، ورأس عيسى، والصليف، وخروجها من محافظة الحديدة وفتح الطرقات وغيرها من البنود إلا أنها لم تنفذ ولا بندًا فيها حتى الآن.
الهدنة الحالية والسيناريوهات المتوقعة:
ماتزال هدنة إبريل 2022م برعاية الأمم المتحدة قائمة، رغم الخروقات المتكررة من قبل جماعة الحوثي في كل الجبهات، وعدم التزامها ببنود الهدنة، ومع أنه تم تمديدها عدة مرات، وبدون إعلان أي تفاصيل لها، إلا أنه لا يمكننا فصل هذه الهدنة عن:
الاتفاق السعودي الإيراني وتأثيره على الهدنة والحرب في اليمن:
فقد جاء الاتفاق السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين وأعلن بيانه بالعاصمة بكين في مارس 2023م، ليلعب دورًا فارقًا في المشهد اليمني، رغم أن الاتفاق بين السعودية وإيران يقوم على مبدأ فصل الملفات وليس التعاطي مَعها جملة واحدة، إلا أنه- واقعيًا - لا يمكن فصل ذلك ويبدو جليًا تأثر الملفات بعضها ببعض؛ ولذلك صدرت تصريحات من المسؤولين الإيرانيين تفيد: أن الاتفاق مع السعودية، سيسرّع من تحقيق السلام في اليمن. وهذا ما جعل من هدنة 2022م قائمة إلى الآن، وبالرجوع لتأريخ إيران مع الاتفاقيات سنجدها مؤلمة وتلجأ إليها كتكتيك مرحلي فقط، وأن معضلة إيران دائمًا إلى (نقض الاتفاقات)، لأن النظام هناك يقوم على ما يسمى "تصدير الثورة" المبنية على نظرية ولاية الفقيه، ويريد من الخليج أن يكون جزءًا من هذه النظرية وثورتها، وبالتالي فإن صمود هذا الاتفاق من عدمه، وتأثيره على هدنة اليمن، متوقف على تفاصيل المفاوضات الجارية في مسقط، ويمكن التنبؤ بالاتجاهات المحتملة للهدنة الحالية في اليمن لمراقبة المشهد، والتغيرات المرتبطة به والناتجة عنه في السيناريوهات التالية:
استمرار الهدنة مع استمرار الجمود في المشهد: وتعليق المفاوضات واستمرار انشغال الدول المؤثرة في اليمن بظروف إقليمية ودولية أخرى، لا سيما حرب الصهاينة على غزة والحرب الروسية الأوكرانية، فالأولوية لدى المجتمع الدولي هي جعل الملف اليمني في مكانة منخفضة على قائمة الاهتمام، وهذا يعني استمرار جمود عملية السلام وتكريس حالة اللاسلم واللاحرب.
استئناف المفاوضات برعاية الأمم المتحدة ووساطة سعودية عُمانية وهذا يرجع لتأثير صمود الاتفاق السعودي الإيراني وذلك إذا ما شعر المجتمع الدولي بوجود فرص حقيقية لانهيار الهدنة وعودة الصراع، فسيدفع بقوة للذهاب لمفاوضات جادة والبناء على التفاهمات الحاصلة في مسقط، إلا أن الحوثي وإن ذهب إليها فسيذهب لتحقيق رغبة إيرانية، وليكسبها نقاطًا تفاوضية في ملفات أخرى أهمها الملف النووي، وسيرفع سقف طموحاته ليحاول الكسب من جهة، والعرقلة والتعنت من جهة أخرى، ليعيد الأمور إلى مربع المواجهة.
خارطة الطريق وتفاهمات مسقط استطاعت مسقط من بداية الحرب أن تلعب دورًا بارزًا في الملف اليمني بدبلوماسيتها الهادئة، وعبر احتضانها لقيادات حوثية بارزة، ففتحت لهم أشبه ما يمكن أن نسميه: (مكتبَ تمثيل)، لتسهيل التواصل الخارجي، وإدارة ملفاتها السياسية والتفاوضية وغيرها، ولم يقتصر على قيادات الحوثي فقط، بل، استضافت مسقط شخصيات سياسية حزبية مختلفة التوجهات، البعض منها موالية للحوثي، وأخرى غير ذلك، كما استضافت مسقط العديد من اللقاءات المشتركة، في محاولة لتسوية الأزمة سلميًا، وكان أولها في أغسطس 2015م بعد فشل مؤتمر جنيف، حيث وصف ذلك اللقاء بالإيجابي، وتوالت اللقاءات بعدها بمشاركة أممية ودولية. وعادة ما تحيط سلطنة عمان جهودها وتحركاتها للوساطة في الملفات الشائكة والمعقّدة بقدر من الكتمان، حرصًا على إنجاح وساطتها، وحماية لها من التشويش السياسي والإعلامي، كما تمكنت مسقط من رعاية تفاهمات في كثير من الملفات، وعلى إثر تلك التفاهمات انعكس ذلك على ملف فتح الطرقات في تعز ومأرب وبعض المناطق، ومن يظن أن فتح الطرقات وموافقة الحوثي السريعة، بعد تعنت دام لسنوات، بعيدًا عن تلك التفاهمات فهو لا يتابع الملف اليمني بشكل دقيق.
وكشفت زيارة الوفد الحوثي للرياض في شهر سبتمبر الفائت (2023م)، عن تجاوز عقدة من العقد التي كانت تعترض مسار المفاوضات والتفاهمات في مسقط، ونقصد بها التحفظات العلنية التي كان يُبديها الحوثيون حول طبيعة الدور السعودي خلال المرحلة وقبولهم به كوسيط، بجوار الوساطة العمانية، فقد أدت اللقاءات العلنية بين الطرفين إلى كسر الحواجز النفسية التي كانت تُمثل أحد العوائق أمام مسار التسوية، خاصة لدى أتباع الحوثيين، بسبب حالة الشحن والتعبئة الكثيفة والمغلوطة التي كانوا يتعرضون لها، مقرونة بادعاءات دينية وتحريفات تأريخية وشطحات سياسية، مع التأكيد بأن عادة الحوثي في الغالب أنه يلجأ إلى هذه التفاهمات كتكتيك ومناورة لتحقيق مكاسبَ فقط، ثم ما يلبث حتى ينقلب ويتنصل من تلك التفاهمات والاتفاقات كعادته.
وتأتي خارطة الطريق وتفاهمات مسقط في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: ومدتها ستة أشهر قابلة للتمديد وهي: مرحلة، بناء الثقة والتدابير الإنسانية وتتضمن هذه المرحلة التالي:
وقف العمليات العسكرية بشكل كامل في الداخل اليمني ووقف هجمات الحوثي على دول الجوار.
فتح مطار صنعاء الدولي مع زيادة وجهات له، ورفع القيود عن ميناء الحديدة.
فتح كافة الطرقات، والمعابر في عموم محافظات البلاد، بما في ذلك الطرق الرئيسية في محافظة تعز.
المرحلة الثانية: ومدتها ستة أشهر وتتضمن:
صرف مرتبات الموظفين في القطاع العام (مدنيين وعسكريين) بحسب كشوفات عام 2014م
إطلاق سراح كافة الأسرى والمختطفين، تحت قاعدة (الكل مقابل الكل).
توحيد البنك المركزي اليمني والعملة اليمنية.
المرحلة الثالثة: ومدتها سنتان وتتضمن:
إجراء مفاوضات سياسية بين الحكومة والحوثيين تناقش فيها كل الملفات بما فيها تشكيل حكومة مشتركة بين جميع الأطراف ومشاركة الحوثي فيها.
التدابير الإنسانية وفتح الطرقات:
رغم أن اتفاق السويد (ستوكهولم) الذي كان في نهاية 2018م، والذي نص على كثير من التدابير الإنسانية، وفتح الحصار على تعز وفتح الطرقات، إلا أن جماعة الحوثي لم تنفذ منه شيئًا، واليوم تحت الضغط الشعبي والوساطات القبلية والدور البارز لبعض الناشطين والإعلاميين- لاسيما في وسائل التواصل الاجتماعي في أكثر من منطقة، سواء في مأرب والبيضاء وتعز والحديدة وغيرها- تمت الاستجابة وفتحت بعض هذه الطرقات، ولعل التفاهمات التي سبقتها في مسقط والتي كان من نتائجها رفع القيود على ميناء الحديدة وزيادة الرحلات من مطار صنعاء لأكثر من وجهات أخرى، له انعكاس على كثير من الملفات الأخرى لاسيما ملف الأسرى والمختطفين الذي شهد في فترة سابقة إطلاق مجموعة من الطرفين، ولكن قد يقول قائل: هل ستستمر هذه التدابير الإنسانية وسنشهد مزيدًا من الانفراجات الإنسانية؟ أم أن عمليات البحر الأحمر ووتيرة التصعيد ستتجه بالمشهد إلى منعطف آخر؟.
التصعيد في البحر الأحمر:
ويأتي التصعيد في البحر الأحمر واستهداف الملاحة الدولية والسفن، من أجل ابتزاز المجتمع الدولي من جهة، ولتحقيق مكاسب لإيران التي تستغل هذا الملف في ملفاتها التفاوضية الأخرى، ولذلك جاءت تصريحات وزير الدفاع الإيراني لعدد من الوكالات الإخبارية: "وصف فيها البحر الأحمر بمنطقة نفوذ تقع تحت السيطرة الإيرانية"، والهدف، الهيمنة الإيرانية على البحار والممرات المائية، وتسويق الحوثي وفرضه كقوة أمر واقع، ولمزيد من تمكينه في المشهد اليمني، وإلا في الواقع من يشرف على تلك العمليات والتصعيد في البحر الأحمر هو الحرس الثوري وقيادات عسكرية من حزب الله!، لكنها تجعل الحوثي في الواجهة.
انهيار الهدنة وعودة الحرب:
وهذا قد يكون لأسباب عديدة منها: استمرار تصعيد الحوثي لعملياته في البحر الأحمر، الأمر الذي قد يذهب به لمحاولة اقتحام مأرب أو تعز أو لحج، وقد يكون بإيعاز من إيران نتيجة تعثر ملفها النووي، وعدم توافقها مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستفرزها الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل.
وختــــــــامًا:
يتطلع أبناء اليمن لليوم الذي تنتهي فيه هذه الحرب، وعودة الاستقرار لليمن وعودة الحياة لوضعها الطبيعي وأن يحتكم الجميع للغة العقل والحوار بعيدًا عن لغة السلاح والقتل والاحتراب والدمار، وأن يسود التعايش بين المجتمع اليمني بجميع فئاته وشرائحه وتنوعاته، وأن يقبل بعضهم بعضًا، ليسود الأمن والأمان وتضع الحرب أوزارها ■