آخر تحديث :الخميس-28 نوفمبر 2024-12:24ص

تحقيقات


شركات الأدوية في اليمن...هوامير تقتات على معاناة المرضى

شركات الأدوية في اليمن...هوامير تقتات على معاناة المرضى

الإثنين - 25 مارس 2024 - 05:43 ص بتوقيت عدن

- جرهم ــ خاص

في بلد يعيش أسوأ كارثة إنسانية في العالم وفقا لمنظمات الأمم المتحدة يجد المواطن اليمني نفسه فريسة سهلة لأطراف كان يفترض أنها أبرز من ينظر إليها بعين الرحمة ويسهم في التخفيف من آلامه التي صنعتها أزماتٌ بعضها فوق بعض طوال سنين الصراع.
وضعَ الأطباءُ وشركات الأدوية إنسانيتهم جانبا ووجهوا بوصلتهم نحو المواطن المغلوب على أمره مستغلين ثقته المطلقة فيهم وغياب الضبط والرقابة في كسب الأرباح وتحقيق منافعهم الشخصية على حساب آلامه ومعاناته.
تعد شركات الأدوية من أهم الجهات التي تلعب دورًا حيويًا في توفير العلاجات والرعاية الصحية للمجتمع وفقا لمعايير وأخلاقيات ومبادئ إنسانية تلتزم بها إلا أن هناك قضية هامة تثير القلق وهي فساد هذه الشركات والانحراف عن مسارها الصحيح بالتعاون مع الأطباء والصيادلة.
يشير مصطلح "فساد شركات الأدوية" إلى السلوكيات غير الأخلاقية أو غير القانونية التي تمارسها بعض الشركات في مجال الأدوية، قد يشمل ذلك تزوير البيانات السريرية للدواء، أو التأثير على الأطباء والمؤسسات الصحية من خلال رشاوى أو هدايا مالية، بالإضافة إلى تضليل الجمهور والترويج للأدوية بطرق غير آمنة أو غير مدعومة بالبحوث العلمية الموثوقة.
واحدة من أشكال الفساد في صناعة الأدوية تكمن في التنسيق بين الشركات الدوائية والأطباء والصيدليات بهدف زيادة مبيعات منتجاتها أو ترويجها بطرق غير قانونية، وعلى الرغم من أن العلاقة بين هذه الأطراف يجب أن تكون مبنية على التعاون والنزاهة في توفير الرعاية الصحية، إلا أن هناك تقارير وأدلة تشير إلى وجود تعارضات مصالح وتأثير غير ملائم.
من خلال هذا التحقيق الصحفي نسلط الضوء على هذه المسألة المهمة وتوعية الجمهور بالتحديات التي يواجهها القطاع الصحي في اليمن كما يمكن أن يساهم التحقيق في تعزيز الشفافية والمساءلة وتشجيع إصلاحات هامة لحماية المرضى.

*أساليب غير مشروعة*
يقول أحد مندوبي شركات الأدوية في عدن - فضل عدم ذكر إسمه- إن الطرق المشروعة لتسويق الأدوية تكون عبر محاضرات وفعاليات علمية سواء في المؤتمرات أو المستشفيات وعن طريق المخيمات الطبية إلا أن معظم الشركات في اليمن لا تطبق هذه الأساليب وتنتهج طرق غير مشروعة منها: إغراء الأطباء بالهدايا والعمولات لإقناعهم بوصف منتجاتها، مؤكدا أن الأدوية التي يتم صناعتها تخضع لعملية تحليل المنتج تسمى (كواليتي كونترول) وتصدر بعدها شهادة للدواء إما مقبول أو مرفوض ومع الأسف عندنا في اليمن يتم إستيراد الأدوية وقبولها حتى التي نتيجة شهادتها مرفوضة وغير صالحة.
*موافقات استثنائية*
وحسب بعض المندوبين الذين تم مقابلتهم والحديث معهم فقد ظهرت الكارثة في اليمن منذ 2018 تحت مسمى (شحنات استثنائية أو موافقات استثنائية)، أي يتم إستيراد الصنف قبل خروج نتائج تحليله حيث يحصل على موافقة استثنائية بإدخاله وبيعة إلى حين تطلع النتائج، وكثير من الشركات بتطلع نتائج أصنافها أنها مرفوضة وغير مقبولة ولكن بعد أن تكون قد انتهت من بيعها كاملة، مشيرين في ذلك إلى تدخل ناس كبار مسؤولين ونافذين في هذه العملية.

*أدوية قاتلة*
يقول أحد المندوبين ويلقب بالهمداني ان من الأدلة التي تثبت حقيقة فساد شركات الأدوية في اليمن ماحدث في مستشفى الكويت عندما توفي 19 شخص نتيجة دواء فاسد، وبحسب الهمداني فإن سبب المأساة هو صنف دواء قامت باستيراده إحدى شركات الأدوية في اليمن بطريقة غير رسمية، حيث يفيد بأنه تم ايقاف هذه الشركة، إلا أنه يعتقد أنها ستعود مجددا إلى الساحة وإنما تم إيقافها لفترة من أجل امتصاص غضب الناس كون القضية تحولت إلى قضية رأي عام، وقال إن دور الجهات المعنية جاء متأخرا وكان عليه أن يحول دون حصول هذه الكارثة عن طريق الرقابة والضبط، ويضيف أن هناك شركات رفض الإدلاء بإسمها تقوم بتغيير تاريخ الانتهاء بوضع لاصق عليه فترة صلاحية أطول بينما ان الفترة الحقيقية قد انتهت.

*القصاصات*
في صيدلية حدة النموذجية تم الالتقاء ببعض الصيدلانيين الذين أوضحوا أن فساد شركات الأدوية في اليمن أكبر مما يتم توقعه وقال إن من الأساليب البسيطة التي تنتهجها الشركات مايسمى "بالقصاصات" ويشير هذا المصطلح إلى وجود كمية كبيرة من العلاجات قريبة الانتهاء لدى الشركة تقوم بأخذها إلى المستشفى الجمهوري والمستشفيات الأخرى وتحدد للطبيب نسبة لا تقل عن 30٪ بعد كل صنف بحيث يقوم الطبيب بقطع قصاصة من كل باكت لكي يقدمها للشركة كإثبات لعدد الأصناف التي صرفها واستخدمها للمرضى.

*شحنات فاسدة*
خلال الفترة الماضية من إعداد هذا التحقيق نشر الصحفي عبد الرحمن أنيس على حسابه في منصة "اكس" وفيسبوك وثائق تثبت قيام الهيئة العليا للأدوية بصرف شهادة إفراج عن شحنات أدوية منتهية ومخزنة داخل حاويات حديدية غير مبردة، بعد ضبطها من قبل سلطات ميناء عدن.
وكتب انيس سلسلة تدوينات مطولة على حسابه في منصة التواصل الاجتماعي العالمية تحت عنوان "بين يدي النائب العام للجمهورية"، قال فيها إن الهيئة العليا للأدوية أصرت في واحدة من هذه المخالفات، "على الافراج عن عشرات الالاف من المضادات الحيوية التالفة بحجة ان الشركة المستوردة ستحرزها في مخازنها"، وأكد أن الهيئة رفضت مقترحا من سلطات الميناء باتلاف الشحنة التي وصلت الى ميناء عدن في 14 نوفمبر 2020 قادمة من باكستان في حاويات حديد غير مبردة.

*أخلاقيات ومبادئ*
يقول الدكتور عصام القرودع استشاري جراحة عامة وجراحة مناظير وجراحة صدر بأنه رفض كل العروض والاغراءات من قبل الشركات التي حاولت التواصل معه ولم يتخلى عن مبادئه وأخلاقيات العمل الطبي ويشير إلى أن تجارة الأدوية غير المشروعة تزداد في اليمن وتشمل الأدوية المزورة والمهربة. ووفقا للدكتور القرودع فقد أصبحت اليمن مكباً للأدوية منتهية الصلاحية من الشركات الرديئة في العالم، وقال إن غض الطرف من قبل الدولة عن هذه المخالفات وفقدان الرقابة الدوائية من الهيئة العليا للأدوية ساعد في دخول الأدوية بشكل عشوائي وغير منظم، مشيرا إلى أن التسويق الخاطئ والأساليب غير الأخلاقية التي تتم بين الأطباء وشركات الأدوية في اليمن أدى إلى فقدان الثقة في القطاع الصحي نتيجة قيام الأطباء في بعض الأحيان بتوجيه المرضى نحو منتجات رديئة وغير فعالة، ووفقا له فقد شجع هذا الأسلوب اللااخلاقي معظم الشركات إلى إدخال أدوية ضعيفة الجودة ومهربة.

تجارب ومواقف صادمة
عندما يتعرض المريض لتجربة سلبية، مثل تعاطي علاج فاسد أو غير فعال، أو توصيات طبية غير مهنية، فإنه يتعرض لآثار جانبية خطيرة ويعاني من تدهور حالته الصحية. هذا الأمر ليس مجرد تأثير جسدي، بل ينعكس أيضًا على الصعيد النفسي والعاطفي، حيث يشعر المريض بالخيبة والغضب والاستياء من النظام الصحي الذي يفترض أن يكون له رعاية وحماية لصحته.
في هذا يتحدث (حمير الرميش ) عن تجربته كيف وجد نفسه ضحية لفساد شركات الأدوية عن طريق تضليل الأطباء الذين تخلوا عن مبادئهم وأخلاقهم والضمير الإنساني، حيث تبدأ القصة عندما قام حمير بأخذ والدته إلى أحد دكاترة العظام إذ كانت تعاني من آلام في العمود الفقري والمفاصل ووصف له الطبيب عدة أصناف وقام بتوجيهه إلى صيدلية حددها له الدكتور ووجه بخصم عشرين بالمائة في خلف الورقة الخاصة بالوصفة!
يقول حمير: "أخبرني الدكتور بأن التخفيض عبارة عن تعاون منه نظرا لأن حالته تستحق ذلك وهذه لفتة إنسانية خاصة من قبل الدكتور".
ذهب حمير لشراء العلاج الموصوف من الصيدلية التي حددها له الدكتور ولكن ما لبث أن لاحظ تواجد عدة أشخاص يقومون بشراء نفس العلاج، وكان من الواضح أنهم تم توجيههم من قبل نفس الطبيب، وكانت وصفاتهم تحمل تخفيضًا قدره عشرين بالمائة على سعر العلاج.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ قرر حمير السؤال عن سعر العلاج في صيدلية أخرى، ولكنه كان مندهشًا لأنه وجد أن نفس سعر العلاج بعد التخفيض متوفر بالفعل في الصيدلية الأخرى، وبسعر أقل بمئة ريال.
وما يزيد الأمر سوءً، فقد أكد حمير أن العلاج لم يحقق لوالدته أي تحسن في حالتها الصحية وماتزال الآن تصارع المرض ويشعر أنه صرف مبلغ من المال دون جدوى.
وفي قصة أخرى يحكيها عصام القوسي الذي يعاني من مرض الربو، يوضح عصام أنه توجه إلى أحد أطباء الصدر في أمانة العاصمة وأخبره الطبيب بأنه يعاني من التهابات في الصدر وقام بوصف كمية كبيرة من المضادات الحيوية بحجة أن حالته تستدعي تناول هذه الكمية من العلاجات، لم يتوقف عصام وذهب لإستشارة طبيب صدر يدعى فاكر القباطي وبعد التشخيص أخبره الدكتور بأن عنده مرض الربو ويحتاج فقط صنفين من علاجات الربو يداوم على استخدامها.
يقول عصام: "عرضت على الدكتور القباطي المضادات التي وصفها لي الدكتور السابق وقال لي بالحرف الواحد يابني هؤلاء تجار مع شركات لايوجد لديهم ضمير ولا إنسانية يحاولوا يمشوا أكبر كمية من هذه المضادات التي قاربت على الإنتهاء".
وفي حالة أخرى يؤكد عبدالرحمن زياد من أبناء مديرية الحدا بأن الطبيب وصف لوالده علاجا لمشكلة ضغط الدم وعندما ذهب لعرضه على طبيب قلب آخر أفاده بأن هذه الشركة تنتج مصاميص للجهال وأن هذا العلاج لايفيد ولا يضر وأنه مجرد إهدار للمال فقط.
وتأتي هذه التجارب المروعة التي يتعرض لها المرضى في قطاع الرعاية الصحية كصدمة قوية تهز ثقتهم العميقة في هذا القطاع الحيوي، حيث أظهرت هذه الحوادث المأساوية حجم التلاعب والفساد الذي ينتشر في صناعة الأدوية وسوء التصرف الطبي، مما يؤدي إلى فقدان الثقة العامة بالقطاع الصحي بشكل عام.

*ديرتي وورك*
يقول الدكتور "محمد العاقل" إسم مستعار لمدير شركة أدوية في صنعاء: الأعمال القذرة لشركات الأدوية في اليمن والتي تسمى (ديرتي وورك) كثيرة جدا منها(البونص) وتعني أن تتفق الشركة مع الدكتور على نسبة معينة بعد كل كمية؛ مثلا تتفق معه على أن يصرف مئة علبة وتعطيه مقابل ذلك ثلاثين علبة مجانا، وكذلك العمولات يعني مشي لي مئة علبة مقابل خصم خمسين ستين ألف من القيمة الإجمالية".
يؤكد العاقل أن هذه الأعمال لاتعتمد على الإقناع أو على جودة الصنف بل تقوم على شراء الطبيب مقابل نسب وعمولات ومكافآت.
ويقول : "تقوم الشركات أيضا بالتكفل برحلات للأطباء بالإضافة إلى اعطائهم مبالغ مقابل الحضور في المؤتمرات وكل هذا بهدف شراء الطبيب وإقناعه في توصيف منتجات الشركة.

*أصناف شعبية*
ويتابع العاقل:
"الأعمال اللا أخلاقية والقذرة التي تقوم بها الشركات مع الصيدليات تكون حول الأصناف الشعبية وهي الأدوية التي لا تحتاج إلى وصفة طبية كعلاج القيء والإسهال والكحة والانفلونزا..... الخ بحيث يتم إعطاء الصيدلي مبلغ أو نسبة معينة مقابل الكمية التي قام ببيعها".
والشيء الاكثر إيلاما والأشد إفسادا وفقا للعاقل أن الهيئة العليا للأدوية لديها علم عن كل صنف موجود في الأسواق بما في ذلك الأصناف التي جودتها ضعيفه وغير فعالة لأن الهيئة وصلت إلى مرحلة تسجيل أكثر عدد من الشركات دون النظر إلى جودة المنتج وذلك لأن كثرة عدد الشركات والأصناف يعود لها بمردود مالي وايرادات كثيرة تلبي احتياجاتها ".
ويقول
" قبل فترة قامت إحدى الشركات بتزوير تاريخ الإنتهاء بوضع لاصق واتضح أمرها ونتيجة هذا اكتفت الجهات الحكومية ممثلة بالهيئة العليا للأدوية بفرض غرامة مالية وسحب الصنف فقط وتركت الشركة تمارس عملها بكل حرية".

*تجارة بلا قانون*
من خلال النزول الميداني ومقابلة بعض الصيادلة وبعض أصحاب شركات الأدوية اتضح أن مالكي شركات الأدوية هوامير لديهم نفوذ قوي جدا في سلطات الدولة
ويقول أحدهم
" لم نستطع حتى يومنا هذا استخراج قانون للأدوية من مجلس النواب لردع هذا العبث الحاصل في سوق الدواء برغم المحاولات الحثيثة التي مازالت مستمرة إلى الآن ومع هذا لم نتمكن من ذلك"

*تهريب للأغراض السلمية بموافقة حكومية*
وفقا للبعض الآخر فإن الكثير من عمليات التهريب تتم بمعرفة الدولة سواء بتسهيل العملية أو بغض الطرف وذلك لأن هناك أصناف توقف استيرادها بسبب الحرب بينما يحتاجها المرضى الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى نتائج كارثية لأنه يفتح المجال للآخرين ويشجعهم على تهريب كميات كبيرة من الأصناف السيئة والفاسدة خاصة وان الدولة نفسها لا تفرض نفسها لمواجهة هذه الطريقة.