آخر تحديث :الخميس-28 نوفمبر 2024-12:24ص

المرونة الأوروبية والشراكات "البناءة" مع الخليج

الأحد - 31 مارس 2024 - الساعة 01:54 ص

عزت إبراهيم
بقلم: عزت إبراهيم
- ارشيف الكاتب



عند سؤال المسؤولين الأوروبيين عن نهجهم في العلاقات مع الدول البارزة حول العالم، وكيف يستخدمون هذه العلاقات بشكل استراتيجي لتعزيز الروابط مع القوى الإقليمية المؤثرة، يؤكدون أن الأساس الذي يرتكزون عليه هو أن تكون أولويات تلك الدول متفقة ومتوائمة مع المصالح الجماعية للدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي يعمل في الوقت نفسه على استيعاب الرؤى الجديدة والتحولات الكبرى التي تشكل العالم من حوله، حتى لا يكون تركيزه الأوحد على ذاته فقط. فهناك نية واضحة للاتحاد لأن يولي اهتماماً أكبر بمصالح البلدان والكيانات الإقليمية التي يرغب في تعميق الشراكات معها. وهكذا فإنه وقبل الانخراط في أية خطوات لتوسيع أجندة الشراكة بينه وبينها، فإنه يعمل على فهم أولوياتها لضمان أن المصالح الأوروبية ليست محور التركيز الوحيد للحوار المشترك.

مؤخراً، أصبح هناك اعتراف من الجانب الأوروبي بأن المصالح الأوروبية تراجعت في عدة مناطق بسبب قضايا تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان. نتيجة لذلك، هناك اتجاه متزايد للبحث عن أسس مشتركة جديدة في العلاقات بين الدول الأوروبية ودول الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، الأمر الذي يُعد تحولاً عن المسار التقليدي الذي تمسك به الاتحاد الأوروبي لعقود والذي كان يتسم بفرض أجندة أوروبية أحادية الجانب على هذه الدول. وتؤكد محاولات الاتحاد الأوروبي تطوير التفاهم بينه وبين شركائه من القوى الإقليمية المختلفة حاجته إلى شراكات استراتيجية. ومن المسلم به أن التوافق التام في الرؤى ليس ضرورياً لأن الهدف النهائي يبقى هدفاً مشتركاً حتى ولو اختلفت أساليب الأطراف في تحقيقه.

يعمل الاتحاد الأوروبي حالياً على إعادة تنظيم سياساته بصورة استراتيجية، من شأنها تعميق التعاون مع الكتل الإقليمية المؤثرة في الاقتصاد العالمي. وهذا التحول في النهج مدفوع بعوامل عدة، من أهمها التنافس بين الولايات المتحدة والصين على بسط النفوذ في مناطق جغرافية متنوعة. وكنتيجة لذلك، فإن الاتحاد الأوروبي مضطر إلى المناورة بحذر عبر هذه المنافسة بين القوتين العظميين. لذا يلاحظ في الخطاب السياسي الأوروبي مؤخراً أن استخدام مصطلحات مثل: "الشراكة البناءة" و"التعاون الاستراتيجي" و"إعادة النظر في الأخطاء التاريخية" و"العمل الجماعي من أجل رفاهية مجتمعاتنا" أصبح سائداً على نحو متزايد. ويعكس ذلك تحولاً كبيراً داخل الاتحاد الأوروبي في سعيه للتغلب على الاضطرابات العالمية، والتي يأتي على رأسها الصراع الروسي في أوكرانيا وأزمة غزة. إذ سلطت هذه الأحداث الضوء على الاختلافات الأيديولوجية الملحوظة في المواقف بين الاتحاد الأوروبي وبين شريكته وحليفته البارزة، الولايات المتحدة.

أكدت فون دير لاين، في خطابها السنوي، الذي ألقته أمام البرلمان الأوروبي في 13 سبتمبر، عن حالة الاتحاد الأوروبي (SOTEU)، حاجة أوروبا إلى تعزيز قدراتها التنافسية في الصناعات الرئيسية والتكنولوجيات المحورية لتحقيق أهدافها الجيوسياسية. على سبيل المثال، سلطت فون دير لاين، الضوء على أهمية تمسك أوروبا بمكانتها في سوق السيارات الكهربائية العالمية، لافتةً الانتباه إلى ما حدث في السابق حين سمحت أوروبا للصين بالسيطرة على صناعة الطاقة الشمسية.

يشعر الاتحاد الأوروبي أن مساهماته الدولية غير معترف بها بشكل كامل، ولذا يسعى إلى تحقيق اعتراف دولي يعكس الجهود الحقيقية التي تبذلها دوله الأعضاء السبع والعشرون. فرغم كون الاتحاد أكبر مساهم عالمي في تقديم مساعدات التنمية والتمويل للمناخ، فإنه يواجه تحديات في تعزيز مصداقيته وموثوقيته لدى شركائه.

يرى العديد من السياسيين الأوروبيين أن النظام العالمي لن يتم تحديده فقط من خلال التنافس بين كتلة تقودها الصين، وأخرى تقودها الولايات المتحدة. ولذا فالاتحاد الأوروبي يركز الآن على القوى الإقليمية والتكتلات المتوسطة التي تتمتع بقدر معتبر من الحكم الذاتي، ويعمل بنشاط على تنمية نفوذها على الساحة الدولية. ومن ناحيتها تقوم هذه التكتلات والقوى الإقليمية بتوجيه المنافسة بين الولايات المتحدة والصين بشكل استراتيجي، إما للاستفادة منها، أو لتحديها بشكل مباشر في كثير من الأحيان. إن الاختيارات التي تتخذها هذه القوى الوسطى فيما يتعلق بعلاقاتها مع القوى العظمى أو علاقاتها ببعضها ستشكل إلى حد كبير النظام العالمي الجديد، فيما يمكن أن يمتد من قطبيات ثنائية وصولاً إلى التشتت والتفرق. وإذا قررت هذه القوى مجتمعة أن تتحالف مع إحدى القوى العظمى، فقد ينشأ عن هذا التجمع مواجهة ثنائية قطبية جديدة. وعلى العكس من ذلك، فإذا اتبعت هذه القوى استراتيجيات أكثر مرونة وتجنبت التحالفات الجامدة، فإن النتيجة ستكون مشهداً عالمياً أكثر اضطراباً وغير قابل للتنبؤ.

شراكات الطاقة مع الخليج:

بعد أشهر قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالتحديد في مايو 2022، أعلن الاتحاد الأوروبي عن "شراكة استراتيجية هامة مع الخليج"، مما يشير إلى الالتزام بتعزيز التعاون بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي. وتنص هذه الشراكة الاستراتيجية على أبعاد متعددة، منها على سبيل المثال: التعاون الاقتصادي، والتعاون في مجال الطاقة والقضايا الأمنية والعلاقات المؤسسية، والتعاون في المساعي الإنسانية وحقوق الإنسان. وتذهب الشراكة لأبعد من ذلك لتشمل مجالات محورية مثل: التجارة والاستثمار، والمشروعات الريادية وتوظيف الشباب، ودعم مبادرات الرعاية الصحية. وتضم الشراكة أيضاً مجالات أخرى أساسية مثل: سلامة النقل والإدارة والاتصال والرقمنة والبحث والابتكار واستكشاف الفضاء.

لقد سلط الصراع الروسي الأوكراني الضوء على حاجة أوروبا الملحة إلى إعادة صياغة نهجها في التعامل مع ملف الطاقة بالشرق الأوسط ودول الخليج. وأنه من الأهمية بمكان أن تتجنب الاعتماد على جهات إقليمية فحسب، وبدلاً من ذلك عليها اتباع استراتيجية ترتكز على المصالح المشتركة لتحقيق السلام والاستقرار والازدهار من خلال رؤية مستدامة ومتنوعة وطويلة الأجل. ولمعالجة الملف الأوروبي الهادف إلى تأمين الطاقة والمناخ، فإن التحول الحاسم عن الوقود الأحفوري يُعد ذا أهمية بالغة. ويمتد هذا التحول إلى ما هو أبعد من مجرد رعاية لشراكات الطاقة الخضراء، بل يجب أن يشمل تخليص الصناعات من انبعاثات الكربون بشكل كامل وتعزيز تحول أخضر واسع النطاق في كلٍ من أوروبا والخليج.

لقد شهد المشهد الجيوسياسي للطاقة تحولاً جذرياً في أعقاب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، الأمر الذي أثار المخاوف بشأن أزمة وشيكة خاصة بتأمين الطاقة في أوروبا. ونتيجة لذلك، هناك دافع قوي لدول أوروبا للاستجابة لدعوة مجلس التعاون الخليجي للتحول عن وقود شرق أوروبا للتخفيف من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية.

وبينما تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على تعزيز علاقاتها في مجال الطاقة مع روسيا، فإنها تدرك إمكانية إقامة شراكات استراتيجية في الوقت نفسه في مجال الطاقة مع الاتحاد الأوروبي. إن الاتحاد الأوروبي، باعتباره سوقاً رئيسية قادرة على استيعاب كميات كبيرة من الطاقة الخضراء في الأمد القريب، يمثل فرصة جذابة.

لا يعزز الانخراط في تجارة الطاقة مع الاتحاد الأوروبي أمن الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي فحسب، بل يقلل بشكل استراتيجي أيضاً من الاعتماد على السوق الصينية، وهو ما تسعى إليه روسيا بقوة. في هذا الإطار، حدد أصحاب المصلحة الأوروبيون ثلاثة مجالات واعدة للتعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي في مجال الطاقة وهي: (1) كفاءة الطاقة والكهرباء، (2) الطاقة المتجددة، و(3) اقتصاد الكربون الدائري.

تدرك دول الخليج أنه في أعقاب انتهاء الحرب الحالية في غزة، فإن الصراع الأوسع يمكن أن يهدد بشكل كبير مصالحها الجغرافية الاقتصادية وخطط نموها الاقتصادي. وهكذا فمن المهم تحديد مسار سياسي واضح للمنطقة، وتعزيز الحوار الهادف بين الأطراف المعنية، ومعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع المستمر. إن المؤسسات الأوروبية تعرب باستمرار عن دعمها للدبلوماسية العربية وتعزيز الجهود التعاونية في جميع أنحاء المنطقة، مع التركيز بشكل خاص على دول الخليج العربي التي لها مصلحة خاصة في القضية الفلسطينية. ويدعو الجانب الأوروبي الشركاء العرب إلى إيجاد مساحة لأداء دور حاسم في تطوير حل شامل ودائم للقضية الفلسطينية.

إن غياب الحل السياسي الواضح للقضية الفلسطينية، وخاصة حل خطة الدولتين، يثير مخاوف كبيرة داخل الاتحاد الأوروبي بشأن احتمال نشوب صراع إقليمي. إن تداعيات الأحداث على الأمن والاستقرار والإرهاب والهجرة غير النظامية في منطقة البحر المتوسط بأكملها مثيرة للقلق العميق. وبالإضافة إلى هذه المخاوف فهناك أيضاً التهديدات المباشرة للتجارة الدولية والأمن البحري، وخاصة في مضيق هرمز وباب المندب. إن الجميع قلق بشأن عودة ظهور أنشطة المليشيات المدعومة من إيران والعمليات الإرهابية التي تقوم بها الجماعات المتطرفة في العراق وسوريا. إن دول الخليج العربي متحدة في تركيزها على منع تصعيد الصراع بالمنطقة. ومن الضروري أن يتعاون الشركاء الأوروبيون والعرب، وخاصة دول الخليج، في مبادرات تهدف إلى التعامل مع إيران وحلفائها لتحقيق الهدف الأساسي المتمثل في وقف التصعيد ومنع المزيد من زعزعة الاستقرار بالمنطقة.

وتؤكد الأزمات الملحة في أوكرانيا وغزة حاجة أوروبا إلى تبني نهج جديد يأخذ في الاعتبار المصالح الأساسية والحيوية للقوى الإقليمية. علاوة على ذلك، فمن الضروري البحث عن استراتيجيات تعاونية مع الحلفاء المقربين لتقليل الآثار السلبية لهذه الأزمات المستمرة.

عزت إبراهيم

رئيس تحرير الأهرام ويكلي وخبير السياسة الخارجية